آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

أين كنا «غداً»؟

حسن السبع صحيفة اليوم

نعم «غداً».. وآمل أن لا تُزعج هذه الصيغة اللغوية الغريبة للعنوان الأساتذة المصححين، فيجردوا أقلامهم الحُمْر، إن كانوا يستخدمون أقلامًا في هذا العصر الإلكتروني. سوف يتضح دافع هذا التجاوز اللغوي لاحقا.

وأما بعد، فقد أشرتُ في كتابة سابقة لها صلة بهذا الموضوع، إلى أن هدف العودة إلى الأرشيف والالتفات إلى التجارب السابقة هو معرفة أين كنا، وإلى أين نتجه، هل أضفنا شيئا أصيلا، أم مازلنا نعيد استنساخ التجارب السابقة؟ وهل تجاوزنا أفكارنا وقضايانا القديمة أم مازلنا نحوم حولها على طريقة «كأننا والماءُ من حولِنا/ قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ».

يطرح الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي على الأديب الراحل عبدالكريم الجهيمان سؤالا عن أسباب توقف صحيفة «أخبار الظهران» بعد سنتين من صدورها، وكانت تصدر في الدمام منذ «26 ديسمبر 1954م» حتى «29 أبريل 1957م» فيجيب الجهيمان انها توقفت بسبب مقال عن تعليم الفتاة. وكان تعليم الفتاة، آنذاك، من القضايا التي لا يجوز الاقتراب منها، على اعتبار أنه مطلب «سابق لأوانه»! يبدو هذا السبب، الآن، مضحكا. ولعل هذه الحكاية الطريفة ومثيلاتها المتعلقة بالممانعة الاجتماعية المتزمتة تجيب عن السؤال «أين كنا، وإلى أين نتجه»؟ والذي نعود من أجله إلى الأرشيف، ليأخذنا هذا السؤال إلى سؤال آخر هو: هل انتهت تلك الممانعة الاجتماعية تماما، أم أنها مازالت تظهر من حين إلى آخر بصور وأقنعة مختلفة؟ نعود إلى الأرشيف أيضا لنتأمل ونقيم إنجازنا الثقافي السابق، ونطرح السؤال نفسه: «أين كنا.. وإلى أين نتجه»؟

في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي كتب الصديق د. أحمد الشويخات مقالًا تحت عنوان «أين كنا.. غدا»! وهو عنوان لافِتٌ للنظر من حيث صياغته اللغوية الغريبة التي تمزج الماضي بالمستقبل. وعلَّقتُ على ذلك العنوان المحمّل بالدلالات بمقال آخر استخدمت فيه العنوان نفسه، وكان مقالي صدى لعبارة رسول حمزاتوف «إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك» باعتبار الماضي زمنًا حيًا متحركًا، وباعتباره رافدًا يصب في قنوات الحاضر والمستقبل.

اليوم، وأنا أنظر إلى هذه المسألة بعين أكثر انتقائية أتساءل: هل الإنتاج الثقافي الراهن امتداد لما سبقه أم منقطع عنه؟ وهل كل ما دُوّن في الماضي لا يتقادم ولا يبهت؟ وهل كان ذلك الانتاج ينهل من لغة المعاجم أم من لغة الحياة. لغة المعاجم تقبع في بطون الكتب، أما لغة الحياة فتتجه نحو المستقبل.

وإذا كان الإبداع الحقيقي لا يتقادم، فما علاقة انتاج الرعيل الأول بالحاضر والمستقبل؟ وهل يمكن أن نقول عن أحد أولئك الرعيل ما قاله هنري ميلر عن آرثر رامبو: «المستقبل كله له حتى لو لم يكن أمامنا مستقبل»؟ وهل كان إنتاج الرعيل الأول، ومازال، حديثا رغم تقادمه؟ وهل كان جديده الحقيقي يعانق القديم الحقيقي، كما يعبر أدونيس، أم أنه مجرد إعادة تدوير لنماذج سابقة؟

يقول الروائي جيلبرت سينويه على لسان أحد شخصياته الروائية عن أعمال المصمم والمعماري ابن غلاسكو الاسكتلندية رينيه ماكنتوش: «إن الفن الحقيقي لا يتقادم، إن ما تراه هنا هو إنجاز لعقل يسبق عصره بكثير. لقد كان رينيه مستبصرا سلفا. عليك أن تذهب من أجل إلقاء نظرة على مبتكراته الأخرى، فهي تعد منارة للفن المعاصر. لقد استلهمها كل المعماريين الأوروبيين».

فهل يمكننا، وبثقة، أن نسجل لأحد تلك الأسماء الشهادة التي سجلها جيلبرت سينويه بحق رينيه ماكنتوش؟ هل لأحد تلك الأسماء حضور مؤثر ومنتج في حياتنا الثقافية؟ وهل كان من بينهم من خلَّف آثارا استلهمتها الأجيال اللاحقة؟

لعل في هذه الأسئلة ما يحدّ من غرابة التركيب اللغوي للسؤال الذي اتخذته عنوانا. ولأننا، أحيانا، نكتب كي نسأل، فإني أترك الإجابة عن تلك الأسئلة لتأملات واستنتاجات القارئ الكريم الذي قد يرى رأيًا مخالفًا لما سجلته من انطباعات.

إن من يعود إلى الأرشيف فيتصفح بعض ما نشرته الصحف والمجلات قبل عقود، سيجد مادة طريفة تستحق التأمل. سيجد طرافة في المقالات التي تكفَّلت شواهد الأيام بنقض وتقويض الكثير من مضامينها. يصح هذا الكلام، كذلك، على الحاضر، وعلى كتَّاب الأزمات «أزمات الربيع العربي وتشظّياتها» بشكل خاص، والذين ستتساقط آراؤهم وتنظيراتهم «الربيعية» مستقبلا في راحتي الخريف.. وللحديث بقية.