آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

سردية التحول الثقافي زمن حرب الخليج

محمد الحرز * صحيفة اليوم

منذ مطالع التسعينيات من القرن العشرين، وتحديدا بعد نهاية حربي الخليج الأولى والثانية وضعتنا الحرب كجيل على محك السؤال النقدي المتصل بالأدب وجمالياته، وانعكس ذلك على الملاحق الأدبية ومنابر المنتديات الرسمية وغير الرسمية، وفجأة أصبح الاهتمام بالنقد يمثل ظاهرة سرت في المشهد الثقافي برمته حيث احتل جيل السبعينيات والثمانينيات النقدي واجهة المشهد الإعلامي والثقافي، وكانت أسماء من قبيل محمد العلي، السريحي، عبدالله نور، البازعي، الغذامي تتناوب في الظهور، رغم التباين فيما بين هؤلاء سواء في المرجعية الفكرية أو الأدبية سوى أن هؤلاء وُضعوا ضمن تيار الحداثة إزاء تيار الصحوة في حراك أشبه بالصدام يخفت من جهة ويتصاعد من جهة أخرى.

لكنني هنا في هذه المقالة لا أريد التطرق إلى ذلك الحراك الذي أشبع بحثا وتحليلا من طرف الكثير من الدارسين، إنما أريد التركيز على نقطة جد مهمة، على الأقل بالنسبة لي وللكثير من جيلي الذي لم يدرك بصورة واعية - وهذا أمر طبيعي، بحكم قلة التجربة والخبرة - العلاقة الوثيقة بين نتائج الحرب وأثرها على التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الخليج تحديدا، وأخاف أن أقول أيضا حتى الجيل السابق لم يدرك عمق مثل هذه التحولات وانعكاساتها على بنية السيرورة الثقافية للفرد والأسرة والمجتمع.

قد يبدو المبرر مقبولا عند الكثير من الباحثين إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تسارع الأحداث وتقلباتها التي لا تعطي الفرصة للباحث التأمل والفهم. لكن بعد مضي أكثر من عقدين على مثل تلك العلاقة ونتائجها يمكن للحدث أن يُحلل من العمق وبأدوات منهجية منفتحة على شتى الحقول المختلفة من العلوم الإنسانية. لكن للأسف لم تُؤسس مراكز دراسات سواء بمعزل عن المؤسسات الجامعية أو داخلها تخص مسألة البحث عن قضايا الحرب بشكل خاص والتطورات التي صاحبتها في شتى مجالات الحياة خليجيا. لذلك هذه قضية أخرى لا أريد الخوض فيها الآن.

أما النقطة التي أود الحديث عنها فهي الصورة التي أُعطيت للأدب باعتبارها المدخل للوعي بالحداثة وكأن الاشتباك بالنصوص جماليا وتأملها من الداخل عند هؤلاء النقاد سالفي الذكر هو الإجابة الضمنية عن أسئلة الواقع المأزوم بأهوال الحرب من وجهة نظرنا كجيل «ثمة فروقات في استقبال وجهة النظر تلك عند هذا الجيل تتحدد أساسا بالمكون الجغرافي والمناطقي ومدى علاقته بالتقاليد الثقافية والتربوية لهذا المكون أو ذاك». وعليه تفتح الرهان على الخطاب النقدي وجرى تدويله في أغلب النقاشات والحوارات بوصفه علامة فارقة وماركة مسجلة لصالح ما يسمى الحداثي بالضد مما يسمى بالتقليدي.

مثل هذا التفتح على الرهان كان يتطلب تغذية مستمرة من التنوع الثقافي والمعرفي حيث كانت الفكرة السائدة أن الفلسفة هي عماد هذا الخطاب، ومن دون الاطلاع على كل جديد من نظرياتها ومقولاتها فلن تستطيع أن تمارس دورك كناقد يشتبك مع النصوص الجمالية كرؤية تعتلي أفق الحداثة. الإقبال على الفلسفة مدفوعين بحب الأدب هو التوصيف الحقيقي الذي لازم البعض من جيلي، على الأقل ضمن إطار مفهوم التلقي في فضاء ثقافي معين. صحيح من جهة أولى أن التلازم بينهما عمق وعينا بالأدب. لكن من جهة ثانية أخضع النصوص لتأويلات فلسفية ضاغطة لا تنفك تطفح بين فينة وأخرى على سطح جل الاشتغالات سواء عند الأصدقاء المجايلين أو من لهم نفس التوجهات والاهتمامات. بيد أن الجديد الذي يكمن خلف ذلك الإقبال هو الشعور بأهمية الانفتاح على ثقافة الآخر، وهو شعور اختبرناه جيدا «هنا نا المتكلمين أقصد بها مجموعة من الأصدقاء وأنا منهم، ولست في وارد ذكر الأسماء» على وقع البحث عن كل مصدر ثقافي يعزز المعرفة الذاتية من العمق. وقد كانت تجربة مريرة بكل معنى الكلمة قياسا بما هو متوافر منها في اللحظة الراهنة.

البحرين على سبيل المثال كانت الوجهة التي نتزود منها بشراء كل جديد من الكتب. هذا أقل القليل مما يمكن ذكره في هذه السردية الكبرى من أجل التحصيل المعرفي، الذي مكن الكثير منا أن يرى الثقافة من منظور العلاقة العمودية وليست الأفقية كما هو حاصل الآن. وذلك بسبب بسيط يكمن في ندرة المصادر وقلة وفرتها، بل أقول أشبه بانحسارها، وهذا ما يجعل الفرد أن يكون متوحدا مع مصدره، ومعززا من مكانته في حياته بخلاف الجيل الحالي الذي يرى الثقافة من منظورها الأفقي فقط، وكأنه من فرط التدفق المعلوماتي على شبكة ذهنه وتفكيره، من جميع الجهات وفي نفس الوقت، وهو بالمقابل لا يتحرك يشبه طفلا تبهره الألعاب لكنه يخاف أن يجربها.