آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 9:00 م

الحداثة الأوروبية وأزمة المرجعيات

محمد الحرز * صحيفة اليوم

ثمة اعتقاد سائد عند جل الباحثين في تراث عصر النهضة أن الليبراليين والعلمانيين العرب هم من تبنوا في خطاباتهم التنويرية الفكرة التي تقول: إذا ما أراد العالم العربي الدخول في عصر التنوير الحداثي ليس أمامه سوى النموذج الغربي الحداثي كي يحتذي به ويعمل على تطبيقه. نعم قد يكون مثل هذا الاعتقاد صحيحا، ولا يجانب فيه قائلوه الصواب من جهة كون الشعارات والمفاهيم والرؤى والتطلعات التي تكمن خلف خطاباتهم هي مستنسخة من تجربة الحداثة الغربية، ومنتزعة من واقع تاريخهم وظروفه الاجتماعية والثقافية والسياسية، لا من تاريخنا نحن العرب، من نظامهم الفكري وحقولهم المعرفية المختلفة، لا من الأنظمة الفكرية راسخة الجذور في التقليد الفكري العربي الإسلامي. وصحيح أيضا أن الدعوات إلى تطبيق النموذج الغربي لم تقف عند حدود التقليد العلماني والليبرالي، ولم يقتصر عليه، بل امتد تأثيره إلى أغلب التوجهات والتيارات سواء منها السلفي أو القومي أو الماركسي أو غيرها من الأحزاب السياسية المختلفة. لكن الاختلاف الذي لم يتم التركيز عليه في جل البحوث ومن ثم دراسته، هو طبيعة هذا التأثير ووظيفته ودرجة تأثيره.

هذا الكلام يتطلب منا إثباته على صعيدين: الأول: إثبات الزعم بمسألة التأثير خارج نطاق التوجه العلماني، والثاني: إثباته عن طريق المقارنة بين جميع التوجهات في سياقها التاريخي. ما يخص الزعم الأول هناك حقيقة قائمة تاريخيا وهي أن أوروبا بوجوهها المختلفة الاستعمارية والإمبريالية والفكرية والتقنية العقلانية هي أشبه بوجوه متعددة لعملة واحدة، وهذا يعني فيما يعنيه أن النهضويين العرب بجميع توجهاتهم هم واقعون بالدرجة الأولى تحت تأثير الحضارة الأوروبية، رغم ما نراه من تباين في الوعي الإيديولوجي بين هذا التيار أو ذاك. وعليه لا يمكن رمي العلمانيين والليبراليين بتقليد الغرب واستنساخ تجربته، ولا يرمى غيرهم بذلك. وإذا قال قائل: كيف تساوي بين من يدعو صراحة في خطابه إلى تبني التجربة، وبين من ينادي بخطرها على الأمة وعلى الهوية؟ الأمر لا يستدعي الاجتهاد في الرد، فكلاهما ارتهنا تفكيرهما لسلطة التأثير الأوروبي. لكن حركة كل واحد منهما عكس اتجاه الآخر. وكأننا أمام فريقين في لعبة شد الحبل. حيث كل فريق يريد أن يجذب الآخر إلى منطقته وهم بالأساس واقفون لا يتحركون، وبالتالي من يتحكم في شروط اللعبة هو مالك الأرض التي يقفون عليها جميعا. لذلك ينبغي إعادة النظر في مفهوم المرجعية ذاتها بالمعنى الذي أطرحه هنا. أما ما يخص الزعم الآخر فأظن أن مجال المقارنة يجعلنا نعيد النظر في مسألة ربط الفكرة التي صدرنا بها المقالة بالعلمانيين والليبراليين. إذ أن أدب الرحلة الذي أنتجه العرب المتوجهون إلى أوروبا خلال أربعة قرون منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر لم يتوقف كما يؤكد الكثير من الباحثين، ومن يرجع إلى انطباعاتهم يخرج بانطباع يعادل انطباع الفكرة السابقة.