آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

فأر في البيت!

يعقوب السليس

الصورة بالتأكيد ليست لفأر. فجميعنا نعرف انها صورة وَزَغَة وجمعها وَزَغ. وتعرف أيضا باسم البريعصي او سام أبرص، ويُعرف «بالإنجليزية: Gecko»، وهو نوع من السَّحالي تنتشر في المناطق الدافئة حول العالم، وهو ليليّ النشاط يقضي أغلب أوقاته على الأشجار ويتغذى على الحشرات وخصوصا الناموس او البعوض الذي ينتشر كثيرا بين الشجيرات بعد موسم الأمطار. يتميز الوَزَغ بقدرته على التواصل الاجتماعي مع باقي أفراد نوعه بإصدار أصوات مختلفة، كما أنَّه يتميّز بقدرته على المشي على الأسطح العموديّة الملساء، والأسْقُف دون أن يسقط. والوزغ يمثل وجبة سائغة للقطط التي تتلذذ بمطاردته والتغذي عليه.

في مجتمعنا يتقزز الكثير لرؤية الوزغ ويتسابق البعض لقتله والقضاء عليه بالاعتماد على بعض الروايات التي تحث على ذلك حيث يروى أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ أمر بقتلِ الوزَغِ. بينما نجد ان بعض المجتمعات تتصالح مع هذا النوع من السحالي. واذكر ان احدى الموظفات من بلد أوروبي أتت للموظفات السعوديات وهي مبتسمة وتضم كفيها حيث التمن حواليها لمعرفة ما تخبأه لهن من مفاجأة. لكنهن تفاررن مذعورات بمجرد ان افرجت عما بين أصابعها لتطل تلك الوَزَغَة!

الكثير منها يجهل ما يؤديه الوزغ لنا من خدمة بتخليصنا من حشرات في حدائقنا خصوصا البعوض. وهنا أُورِد حادثة وقعت في جزيرة بورنيو عام 1950م حيث انتشر فيها داء الملاريا والذي تسبب في وفاة العديد من سكان الجزيرة. بناءً عليه تدخلت منظمة الصحة العالمية للقضاء على بعوض الملاريا الذي يقوم بنقل المرض من المصاب للشخص السليم بواسطة لدغه للتغذي على دمه. في سبيل ذلك قامت المنظمة برش الجزيرة وخصوصا المستنقعات بمبيد دي دي تي القاتل الذي تسبب في موت البعوض والقضاء عليه. جميل هذا الإنجاز لكن مالذي حصل بعده؟ تم القضاء على معظم الوزغ نتيجة تغذِّيْهِ على البعوض المتسمم بالمبيد القاتل. القطط التي أكلت الوزغ بدأت بالنفوق وتم القضاء عليها من الجزيرة. هذا المشهد ترك الفئران تسرح وتمرح وتتكاثر بشكل متصاعد وخطير مما أدى لانتشار أمراض وبائية مثل التيفوئيد والطاعون. كان هذا القصور في النظر كارثيا حيث تسبب بالإخلال بدورة الحياة الطبيعية مما اضطر القوات الجوية الملكية ان تقوم بعملية استيراد وإنزال لقطط في المناطق المتضررة في الجزيرة كعملية إنقاذ للقضاء على الفئران.

يظهر التاريخ أن الانسان يعاني من قصر النظر فيما يتعلق بالطبيعة. قد يبرع بني البشر في وضع حلول محددة لمشاكل محددة، ولكننا لا نجيد التفكير في العواقب طويلة الأجل لتلك الحلول. بمعنى آخر؛ نحن نعاني من قصر النظر.

قديما، كان قصر نظرنا مفيداً، فهو الذي أبقى تركيز أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ على الأمور الهامة - كالعثور على الغذاء - على سبيل المثال - وتجنب الحيوانات المفترسة. حينها ضَمِنَ قصر النظر لدينا البقاء على قيد الحياة. لكن اليوم، يبدو ان قصر النظر هذا أخذ يقودنا نحو الهاوية.

اخترع البشر الزراعة قبل حوالي 10 آلاف الى 12 الف سنة، وهذا ما سمح لنا بالحفاظ على أنفسنا على المدى الطويل. ولكن، وعلى الرغم من هذه التكنولوجيا الثورية، ظل الانسان بطبعه ذو نظرة قاصرة. وعندما ننظر إلى الوراء، يمكننا أن نرى بوضوح كيف أن هذا هو السبب الجذري لسلوكنا المدمر اليوم: فالبشر يستقرون في مكان ما ويستنزفون الموارد الطبيعية للمنطقة، مما يتسبب في سقوطهم في النهاية.

جور الانسان على الطبيعة نتيجة جهله لدورة الحياة أدت الى نتائج كارثية - كمثال الحادثة أعلاه - وبعضها لم يتمكن من علاجها وكانت النتيجة جهوداً مضاعفة وخسائر عظيمة. النحل يعد من أنفع الحشرات للإنسان بإنتاجه للغذاء الرباني الا وهو العسل بالاضافة الى الفوائد الجمة في غذاء الملكة وشمع العسل التي تصنع منه خلايا العسل، وايضاً حبوب اللقاح الذي يعلق بأرجلها وتقوم بتجميعها حيث يجهل معظم الناس فوائده. والعمل الجبار الذي يقوم به النحل لتلقيح الزهور حيث حاول الانسان انتاج روبوتات لتقوم مقام النحل في التلقيح، إلا أن السيناريوهات البديلة التي توصل اليها العلماء كانت سيئة. في ثمانينات القرن الماضي وفي حقول التفاح في جنوب غرب الصين أدى استخدام المبيدات الحشرية إلى القضاء على مستعمرات النحل مما اضطر المزارعين تلقيح الزهور يدوياً. فكانوا يعدون العدة في الموسم لتسلق الأشجار العالية والقيام بعملية التلقيح باستخدام حقيبة مملوءة بحبوب اللقاح وفرشاة دهان. الشخص الواحد قد يستغرق يوما كاملا لمجرد تلقيح شجرة تفاح واحدة. ومع ذلك لم تكن النتيجة مرضية، وهو ما أكدته دراسة أجرتها جامعة سيتشوان في الصين وأشارت فيها إلى أن كفاءة الإنسان في تلقيح الزهور لا تتناسب مع كفاءة النحل، وأن توظيف أشخاص للقيام بهذا العمل يتكلف 10 أضعاف ما تقوم به مجموعة بسيطة من خلايا النحل. ولذلك أقلع الكثير من المزارعين عن تلقيح حبوب التفاح بهذه الطريقة، واتجهوا نحو المحاصيل التي تلقح ذاتياً مثل البرقوق وأشجار الجوز.

كان أحد الحلول البديلة أيضاً نشر حبوب اللقاح من خلال طائرات الرش الزراعية ولكن بمقارنتها بما يقوم به النحل تبين أن التلقيح بهذه الطريقة ينتج محصولاً أقل ب 70% وحجم الفاكهة 40٪‏ أصغر من الطبيعي.

احدى روايات ظلم بني البشر للطبيعة ما يروى في احدى أقاليم الصين أيضا حينما اشتكى المزارعون من الطيور التي تقتات على جزء من المحصول. فقام أهل القرية بتشكيل حلقات بشرية وبدأوا بقرع الطبول لإفزاع الطيور واخافتها. ونتيجة لهذه العملية الإرهابية تم القضاء على معظم الطيور بينما القلة القليلة الباقية منها قررت مغادرة القرية الى غير رجعة. احتفل أهالي القرية بهذا النصر المؤزر، وتفائلوا خيرا بمحصول تلك السنة ولكن مفاجأة كانت بانتظارهم حيث كان المحصول اسوء من السنوات السابقة بسبب الديدان التي نخرت الثمار. تلك الديدان التي كانت الطيور تقتات عليها في السابق.

ويستمر ظلم بني البشر للطبيعة ودورتها مما يورث خللا في السلسلة الغذائية التي هي من نواميس الكون. جل الباري في حكمته فهو لم يخلق شيئاً عبثا.

ونحن نولي أهمية كبيرة للوقت ونقوم بإنجاز الأمور بكفاءة، فلماذا يصعب علينا النظر في عواقب أعمالنا على المدى الطويل؟

هذا نابع من عدم قدرتنا على التفكير فيما وراء وبعد حياتنا القصيرة نسبياً، وعدم القدرة على تفهّم الوقت والتاريخ في عمقه، والذي قد يمتد ملايين أو مليارات السنين.

على الهامش:

الزوجة: النجدة.. النجدة... فأر في البيت

الزوج: لا تهتمي أبداً؛ فالفئران تهرب من القطط

- النجدة، القط كسر الصحون وأكل السمك!

- لا تهتمي أبداً فالقطط تهرب من الكلاب

- النجدة، الكلب مزق المقعد وأكل طرفاً منه

- لا تهتمي أبداً فالكلاب تهرب من الفيلة

- النجدة.. النجدة

- لا تهتمي أبداً فالفيلة تهرب من الفئران

- النجدة.. النجدة... فأر في البيت!