آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

الرقابة الذاتية في وجه الفضائيات

وديع آل حمّاد

هل سألنا أنفسنا: ماذا يمكن أبناؤنا أن يشاهدوا في الشهر الفضيل؟

كنت مع أحد الأصدقاء نتحدث عن البرنامج العبادي والروحي والمعرفي والثقافي الذي ينبغي أن نسلكه في شهر رمضان لنحظى بالمغفرة والرضوان والعتق من النار.

وقد بدأ صديقي حديثه منزعجا من عدم مراقبة بعض الأسر لأبنائها مما يعرض على بعض القنوات الفضائية من مادة إعلامية جاذبة وآسرة معتمدة على التطور التقني، تعمل على كسر الحواجز الثقافية والوعي الفكري والقيم الأخلاقية النبيلة التي نشأنا عليها والمرتكزة على التعاليم الدينية والأعراف الاجتماعية الأصيلة المتمثلة في العفة والطهارة والحياء والكرامة والمحافظة على الأسرة ككيان غير مفكك قائم على المودة والمحبة والوئام يساهم في بناء مجتمع فاعل نظيف تسوده الفضائل والمثل الرفيعة لا الرذائل والموبقات والمفاسد الأخلاقية.

فالواضح أن استراتيجية بعض الفضائيات قائمة على رؤية تدميرية تستهدف المنظومة الثقافية والفكرية والروحية لفئة الشباب، من خلال برامج تافهة ساقطة لا جدوى من وراءها سوى الميوعة والتفسخ، والمسلسلات التركية ونحوها التي تعمل على تلويث أجواء روحانية هذا الشهر الفضيل وتسويقها لمجموعة من الانحرافات والموبقات والمفاسد الأخلاقية والانحطاط الفكري على أنها أمر طبيعي مستساغ فعله، كالزنا والعلاقات المشبوهة بين الجنسين باسم الحب والخيانة الزوجية، فضلا عن ترويجها للعنف.

والأمر الآخر الذي ينبغي الإضاءة عليه في هذا الصدد هو اعتماد استراتيجيات بعض الفضائيات على بناء علاقة عاطفية جامحة قوية بين القناة الإعلامية الآسرة بموادها والمتلقي من الناشئة بحيث يتحول إلى عاشق يحوم حولها كما تحوم الفراشة حول النار. ومن الطبيعي أن هذه الرابطة العاطفية ستفضي إلى غرس القوالب الفكرية والثقافية والقيمية - التي تشكل صميم رسالة هذه القنوات - في نفوس هذا الجيل الصاعد.

وبتغلغل هذه القيم السلبية في نفوس الناشئة سيتحولون من ذي موقعية في معادلات البناء والتطوير ورقمٍ صعبٍ في مسيرة مستقبل هذه الأمة الثقافي والحضاري إلى عنصر مدمر وأداة تخريبية ومعول هدم.

وهنا بدورنا نسأل: ما دور الأسرة في مواجهة هذا الخطر الداهم؟

الأسرة هي الركيزة الأساسية في البناء التربوي للأبناء، وعلى عاتقها مسؤولية التنشئة التربوية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية للأبناء.

ومن الخطورة بمكان أن تتخلى الأسرة عن مسؤوليتها اتجاه أبنائها من خلال تركها الأبواب مشرعة للقنوات الفضائية لتقوم بدورها في تشكيل البناء التوعوي والفكري والثقافي والروحي والأخلاقي للأبناء. حيث بتنصل الأسرة عن مسؤوليتها لن تجد لنفسها موطئ قدم في عملية التشكيل الأخلاقي والروحي لأبنائها ولن تجني إلا ما أرادته الفضائيات من بناء وتشكيل. ولذا لابد أن تدرك الأسرة بأن الجيل الصاعد هو نتاج تأثيرات ما يتلقاه من الوسائل الإعلامية سلبا أو إيجابا.

لنعد إلى السؤال الذي استهللنا به المقال لنولد منه تساؤلا آخر، وهو: هل نلجأ إلى أسلوب القمع المتمثل بحجب القنوات الفضائية التي تعرض السموم الفكرية والرذيلة؟

يعتقد البعض بأن هذا الأسلوب الناجع والأمثل بيد أنه ينطوي على سلبيات جمة. إذ بأسلوب القمع تخلق بينك وبين أبنائك هوة قد تتسع رويدا رويدا إلى أن يصعب ردمها، ومتى كانت الهوة من السعة بمكان في علاقتك بأبنائك أصبح من العسير قبول نصحك وتوجيهاتك، وبهذا تكون خلقت ظروفا وأسبابا تؤدي إلى تمرد أفراد أسرتك عليك، وبالتالي لا تستطيع أن تكون الأوركستر الأخلاقي لأفراد أسرتك إذ لم تعد كلمتك مسموعة.

الأمر الآخر في هذا المقام لابد أن ندرك بأن الأسلوب القمعي ماهو إلا أسلوب ذو صبغة انفعالية عاطفية مجانب للعقلانية والصواب.

والأسلوب العاطفي الانفعالي تأثيره محدود ووقتي يرتفع تأثيره بزوال مؤثره.

فهل نعتقد بحجبنا لتلك الفضائيات قد شكلنا حجابا مانعا يمنع أبنائنا من مشاهدة ما يعرض؟ أنه وهم. نعم ليس بإمكانهم مشاهدة ذلك في المنزل ولكن بإمكانهم مشاهدة ذلك خارج المنزل أو عبر وسيلة آخرى كاليوتيوب. إذا ما الجدوى من هذا الإجراء الانفعالي؟!

هذا الإجراء داخل في منظومة الرقابة المصطنعة، والرقابة المصطنعة ليست ذات جدوى وفاعلية. ولو فكر متبعها مليا بجدواها سيجد فاعليتها ماهي إلا وهم وسراب بقيعة.

الحل هو الابتعاد عن الأسلوب القمعي الصناعي لأنه مرشح للفشل واللجوء إلى الأسلوب التعقلي القائم على الحوار بين الأبوين وأبنائهما وزرع الثقة فيهم. ومن خلال هذين المرتكزين ستتولد الرقابة الذاتية في نفوسهم، ومتى ما تولدت لم يعد الأب بحاجة إلى أساليب القمع والحجب، بل الرقابة الذاتية ستقوم بدور الحاجز والحاجب والمانع والكابح.

وهنا قد يظن البعض بأن تشكيل منظومة الرقابة الذاتية أمر سهل ويسير «كبسة زر»، بل يحتاج إلى مسيرة زمنية من البناء والتشييد، تبدأ من الطفولة إلى أن يصل ذلك الطفل إلى المرحلة التي يتحمل فيها مسؤولية نفسه قانونا وتكليفا.

ومتى ما عمل الأب على غرس هذه القيمة في نفوس أبنائه أصبح مصداقا حقيقيا لقوله تعالى: ﴿قوا أنفسكم وأهليكم نارا.

وفي الختام لابد أن نضع الأية التالية نصب أعيننا لتحفزنا على تحمل المسؤولية ونتحرك في تربية أبنائنا على ضوئها: ﴿وقوفهم إنهم مسؤولون.