آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

الحصة الثالثة

أثير السادة *

سنغلق باب السنة الأولى من الدراسة الثانوية على وقع طبول الحرب، كنا للتو خرجنا من حرب الخليج الأولى، كانت جغرافياً أبعد من الثانية، هذه المرة سنكون على موعد مع حزمة حقيقية من القلق تجاه حرب وجدنا أنفسنا في دائرتها.

صارت العطلة الصيفية عطلة للحرب، ترتعش في دواخلنا كل الهواجس ونحن نسمع صافرات الإنذار ونشاهد صواريخ باتريوت تطير في السماء، قبل أن يهتز لنا باب على وقع الصاروخ الذي طال مدينة الظهران.. كانت الحرب قصيرة على مقياس الحروب التي نعرفها اليوم، لكن آثارها بقيت زمنا طويلا، فما قبل الحرب لم يكن كما قبلها، غير أن الدرس لم يتغير…فقط درس الوطنية كان يأخذ في الاتساع يومها في قائمة المقررات الدراسية، كمنتوج لهذا الجو المشحون بالقلق، سيقلب الأستاذ جهاد الخنيزي صفحاته وهو في مطلع تمارينه على التدريس، يقلب الدرس ويقلب معلوماته أيضا، فقد كان مشغولا بمساجلته ومحاكمة معلوماته!، فإذا قال الكتاب بأن الجهل والبدع قد انتشرت في البلاد قبل دعوة ابن عبدالوهاب، رد عليه بالقول بأن القطيف كانت تسمى النجف الصغرى!.

هناك في مهب الفرح بالعودة للحياة ثانية، وجدنا أنفسنا في مفترق طريق، فالضوء الذي مر من نظام المقررات لم يعد يكفي للاستمرار فيها، الوزارة قررت العدول عنه مرة أخرى، كما صنعت في الثمانينات، والذهاب مرة أخرى باتجاه النظام التقليدي للحصص.. كان علينا أن نقرر إحدى الوجهتين، إما البقاء والتمتع بمرونة الجدول وخفة الحركة على طريق التعلم، أو أن نخرج إلى ذكرياتنا القديمة، حيث الجدول الممتد بطول ساعات اليوم.

حتى إذا ضاق بنا الخيار، فررنا إلى التعليم القديم، غير أنه في هذه المرة سنحمل ثانية إلى تجربة الدراسة في منزل صغير، بناية سكنية جرى تهيئتها لتحبس النور من أجل توفير فصول كافية للعدد الآتي من نظام المقررات.

في الثانوية، الوجوه أكثر وضوح، والأرواح أشد يقظة في توقها للنضج، ها هم الأصدقاء وقد نبتت لهم شواربهم وعوارضهم وعضلاتهم حتى، يصقل المدرس معاني الدرس في شرحه ويصقل الطلاب نباهتم ورغبتهم في الروغان معاً، لا شيء يعادل فتوة المراهقة تلك، لذلك سيبدو متوقعا أن تذهب لحظات الخلاف إلى ذروة الاختصام.

أخبار هذه المرحلة متناثرة في ذاكرتي، لاشيء استثنائي إلا استثنائية الزمن الذي عشناه، التوتر في العلاقة مع الآخر سيبقى حاضرا كما في كل مشهد، سيتكرر مشهد المضاربات بين الوجوه القادمة من عنك وبين مفتولي العضلات من أبناء البلدة، وسينتهي الخلاف مع معلم الدين عمر باشماخ إلى الانتقام من سيارته، وسيعود أستاذ مادة اللغة الانجليزية، الأستاذ علي السيف، من لجنة التصحيح لامتحانات الثانوية وقد أطال لحيته وقصر ثوبه، فيما يبدو تحدياً لأجواء اللجنة يومها، وسيتوب أستاذ الفيزياء من أبناء سوريا عن اجتهاداته السابقة في تمرير الأسئلة قبل نهاية المشوار.

لا مغامرات تذكر في هذا البيت الصغير، خرجنا من نصه إلى نص جديد في حياة أرحب، خرجنا وعلينا آثار تعليم مازال عوده لم يشتد، ورغبته في التطوير لم تكبر، لندخل بعدها في أمنيات الآباء والأمهات، ووجهة منذورة للوفاء لأحلامهم المؤجلة.

وبس.