آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

المصلحة فوق الخلاف المذهبي

جعفر الشايب * التجديد العربي

اثناء اجراء العملية الجراحية لي، كانت احدى قريباتي وهي في غرفة الانتظار تدعوا الله وتقرأ آيات من القرآن الكريم وتصلي على طريقة مذهبها مسيلة اليدين واضعة قطعة التربة في مكان سجودها. معها كانت أيضا سيدة تنتظر نتيجة عملية قريب لها، لم تطق ذرعا بما اعتبرته مخالفة شرعية أمامها، فبدأت ترفع صوتها مستنغفرة الله عما تراه ومكررة ذلك بصوت مرتفع، ويبدو أنه لو كان بامكانها إنكار ذلك باليد لفعلت.

بعد برهة من الزمن، يبدو أنها تذكرت أنها في مكان تنتظر فيه نتيجة مريضها، وأن أولويتها أن تدعو له بالعافية بدلا من الانشغال بغيرها، وان من مصلحتها حشد اكبر عدد من الداعين لمريضه بالعافية. وهكذا بدأت تدريجيا بالالتفات لقريبتي طالبة منها اشراك المريض في دعائها، وشاكرة إياها على استجابتها لطلبها.

هذه التجربة تعبر عن سياق طبيعي لكل فرد عندما يكون هناك تعارض بين مصلحته الحياتية وبين موقفه من المختلف معه، مذهبيا أو غيره، فالطبيعة البشرية تميل الى تغليب المصلحة على اَي شيئ آخر. البعض يفسر ذلك على أنه انتهازية أو استغلال لظرف معين، لكن المنطق والعقل يقودان الى موقف مثل هذا الذي حدث.

ينطبق المثل على السابق على الجماعات كما هو على الافراد، حيث أنه عندما يكون العقل واعيا بالمصلحة، فإن الاولويات هي التي تحدد العلاقة بين المختلفين ويتم التنازل عن القضايا الخلافية باعتبارها أمورا فرعية وجانبية. والعكس عندما تتضخم الخلافات وتتحول الى معوقات امام قيام علاقات مثمرة وبناءة تحت مبررات مختلفة، فان المصالح المشتركة تبدأ في الضياع والتبخر والانحسار.

واقعنا الاجتماعي يؤكد ذلك تماما، حيث اننا نضيع الكثير من الفرص البناءة والتي تفيد في تقدم المجتمع تحت مبررات خلافية لا تنتهي، والعقلاء هم من تمكنوا من تجسير علاقات بناءة ومصلحية حتى مع من اختلفوا معهم. تلعب عوامل مختلفة في التأثير على العقل الجمعي بأساليب متعددة لتجعل منه فريسة لخلافات وقضايا جانبية منغمسا فيها ومعتقدا أنها من أولوياته، ليكتشف لاحقا أنها كانت مجرد أوهام ضيع خلالها الكثير من الفرص البناءة.

ها نحن في مجتمعاتنا نلهث وراء خلافات جانبية عديدة لا تنتهي، ونعلم أنها تضر بمصالحنا المشتركة، ولكننا نضفي عليها مبررات - حتى شرعية - مع أن الشرع يهدف إلى المقاصد العليا. اننا دوما بحاجة الى استحضار المصالح المشتركة التي تجمعنا، كالوحدة الوطنية وبناء القوة الداخلية وتنمية المجتمع، ونضعها أولويات حقيقية فوق اَي خلافات مصطنعة وحتى لو بدت حقيقية، فالمصالح المشتركة الكبرى هي الادوم والأبقى والأنفع.