آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

التأمل عبادة وسلوك

الشيخ حسين المصطفى

أن تقول ”أنا مؤمن“ فهذه ليست كلمة تقال، أو أمنية تتحقق بين عشية وضحاها، وليست شيئاً نمتلكه بمالنا أو قوتنا وسلطاننا، ولا يمكننا ن نتصنعه أو نتزين به.

ولكي تكون هذه الكلمة حقيقة ما في وجودنا، فلا بد أن تنتج عن علم ومشاهدة وتضحية ومجاهدة.. فالمؤمن يعرف بأثره في الحياة.

سئل جلال الدين الرومي: من هو الكافر؟

فقال مولانا: أرني المؤمن كي يَبِينَ الكافر!

فقيل له: أنت هو المؤمن؟!

فقال مولانا: في تلك الحال فكل من يضادٌّنا فهو الكافر!!

فالإيمان علاقة ارتباطية بين الذات والذات، بحيث ينعكس عنه الدافع لكل التصرفات والأفعال السلوكية للإنسان، على اختلاف أشكالها وألوانها. فكما أنَّ المؤمن مرآة أخيه المؤمن، كذلك هو مرآة خالقه في تصرفاته.. سُئل الإمام علي: هل رأيت ربك؟! فأجاب: ”لم أكن بالذي أعبد رباً لم أره“. فسئل: فكيف رأيته؟! فأجاب: ”لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان“. وهو من مشكاة الرسول الكريم ﷺ حيث يقول: ”أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك“.

ولكي تصل وتفهم تأمل..

ولو تأملتَ كلَّ شيء من حولك تجد أنه في حالة تغير دائم. الماء الذي تشربه، الطعام الذي تأكله، اللباس الذي تلبسه، حتى الناس من حولك يتغيرون، فلماذا تبقى على حالك، لا بد من اتخاذ إجراء يضمن لك السعادة في الدنيا والآخرة.

ولعل السبب الرئيس في أنّ كثيراً من الناس لا يتغيرون هو أنهم لم يدركوا شيئاً عن قوة التغيير في أعماقهم، ولذلك تجدهم يبقون على ما هم عليه.

وللأسف نحن أمة تغلب عليها سياسة القطيع، وعدم الأخذ بأسباب التأمل بما يسمع أو يقرأ قبل اتخاذ الموقف السلبي أو الإيجابي، لأنّ المشكلة التي يواجهها مجتمعاتنا العربية، تتمثل في غلبة العاطفة والانفعال على كيانه، والتي يستغلها البعض من أجل إثارة الأجواء ضد المنافسين.

إنّ عقل ودين ومذهب كل إنسان يجب أن يترك لقناعة وضمير كل إنسان وأنه حق كل إنسان أن يمارسه كما يمليه عليه ضمير هذا الحق هو في طبيعته حق لا يمكن التصرف به هو حق غير قابل للتصرف.

ولقد طرح لنا القرآن الكريم التأملات الإبراهيمية للخليل إبراهيم ، من خلال طرحه لتأملات شديدة الخصوبة وشديدة الإيحاء، وبالتالي تحقق في وعي المتلقي أكبر قدر ممكن من التأثير.

إنه حوار دار بين إبراهيم وأبيه أولاً، وبين إبراهيم والكون ثانياً، وبين إبراهيم ونفسه ثالثاً..

ولو تأملناه لم يكن ذلك مجرد حوار، بل هو حوار «تأملي» في عمق الوعي الإنساني والتجربة البشرية، حوار عميق فوق مقاييس الزمن والتاريخ، حوار يشكل منعطفاً مهماً في تاريخ الفكر الإنساني ينطلق فيه إبراهيم من الشك بالمسلَّمات التقليدية في مجتمعه.

لذا كانت التأملات الإبراهيمية تمثل تمرد جيل جديد على الأفكار التقليدية والمسلَّمات الاجتماعية البالية.

ف «الأب»: رمزٌ لكلِّ السلطات التي تكرِّس بقاء التقاليد والأعراف والمسلّمات، وتوفر لها الحماية والاستمرار، «عبر مسميات قانونية وشرعية».

و«الكون»: يمثل نضج العقل الإنسان ومحاولته فكَّ أسرار السماء والخليقة باعتماده على العقل، الذي لا يخضع لزمان ومكان، ليخرج الإنسان من الحيرة والشك الموجودين في الحياة والموت وفي الوجود والفناء.

و«النفس»: رمز التساؤل العميق وانفتاح العقل وتطهير القلب..

هذه الليالي الإبراهيمية الطويلة، المزدحمة بالتأملات والحوارات، والتي قضاها الخليل إبراهيم على فراش الشك والتساؤل، لم تنته إلا عندما أشرق نور العقل من داخله عبر إجابات تحرر الإنسان وعقله من القيود التقليدية والنظرة المسبقة والتقاليد الغارقة في القدم، والمسيطرة.. لا لعلاقة فطرية بينها وبين الإنسان، بل لأنها تنتمي للأوليين.

وكأنَّ تلك التأملات الإبراهيمية تحفزنا لتقول لنا: إنَّ المعرفة لا تحلُّ على عقلٍ خاملٍ بليدٍ لا شكَّ فيه ولا تساؤلات ولا تأملات..

وهل يمكن لإيمان أن ينمو في عقل لم يعرف الشك والتساؤل، ولم يتقلب بحثاً عن يقين، ولم يشك بالمسلَّمات، ولم يلحد بالشرك الغبي المتوارث؟!

أبداً، فالإيمان يبدأ من الشك، واليقين يبدأ من السؤال، وانفتاح العقل وطهارة القلب.

لذلك اعتبر القرآن أنّ إبراهيم كان أول المسلمين.. والإسلام هو ملّة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن من المشركين، ورسالة الإسلام هي امتداد لرسالة إبراهيم الأولى والأصلية، وهذا يعني أنَّ رسالة محمد - ومن قبله موسى وعيسى - سوف تستمر على خط إبراهيم؛ عبر إثارة التساؤلات كطريق للوصول إلى الحقائق الكونية الكبرى.

فالتأمل والتساؤل.. ليس مجرد إثارة سؤال ليصل صاحبه إلى يقين غبي ومتوارث حاله حال البديهيات والمسلمات التقليدية، بل هو منهج في البحث يصل صاحبه عبره إلى ذروة الإيمان التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر الشك لذلك يقول: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

فعبر التأمل والتساؤل يصل إلى اليقين النهائي إلى طمأنينة القلب أعلى مراحل اليقين، هذا المستوى لا يصل إليه بالاستغفار والدعاء والتسبيح والصلاة والتعبد، نعم هذه ضرورية لنقاء القلب وسلامته وجاهزيته لاستقبال اليقين الآتي عبر العقل وعبر التساؤل.

والنبي محمد يقولها - فيما يُروى عنه -: ”نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ“ ليؤكد أنَّ الشك عبر التأمل ليس تهمة، وأنَّ التساؤل هو طريق اليقين المتجدد والحيوي ليصبح التساؤل محركاً للإيمان وللشريعة وللحياة كلها..