آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 9:00 م

رجل الذهب.. جعفر الأحسائي

سلمان محمد العيد

حينما حضرت مراسم تشييع الأخ العزيز جعفر الأحسائي، يوم الجمعة الماضي «9/فبراير/2018» كنت أتساءل بيني وبين نفسي من يكون هذا الشخص الذي حظي بتفاعل منقطع النظير، إذ خرجت العشرات من النساء بكل تلقائية وعفوية لتشييعه إلى مثواه الأخير؟

فهو ليس رجل دين، لأننا في الغالب نتفاعل كثيرا مع رجال الدين في حال وفاتهم، فتزدلف المئات والآلاف لتشييعهم، حتى لو لم نكن متفاعلين معهم أيام حياتهم، فالموت في الغالب يجب ما قبله.

كما أنه ليس من الوجهاء الكبار المتصدين للأعمال الاجتماعية، فلم يكن رئيسا لجمعية ولا لناد ولا لمدرسة.

كما أنه ليس شاعرا، ولا كاتبا، ولا أدبيا ولا خطيبا، ولا يملك شيئا من عوامل الشهرة.

كذلك، لم يكن من عائلة كبيرة من عوائلنا المعروفة في جزيرة تاروت، أقصى ما نعرفه أنه من عائلة أحسائية «من أصل ثلاث عوائل» استوطنت جزيرة تاروت، ولم تتخل عن روابطها العائلية في الأحساء والدمام، كما لم تتخل عن مهنة الآباء والأجداد وهي صياغة وتجارة الذهب، وحسب تعبيرهم ”صايغ ولد صايغ“.

لكن ما سر هذه الشعبية التي حظي بها في حياته وبرزت بصورة جلية بعد وفاته، وفي مراسم تشييعه، إذ أن معظم الذين شيّعوه وأنا منهم يشعرون بألم الفقد والفراق لهذا الرجل، فالكثير يرى أن البلاد خسرت رجلا صالحا مؤمنا، وقد لاحظت أن عددا ليس لهم صلة قرابة مع المرحوم وهم يبكون على فراقه بكاء مرا.

على ضوء معرفتي بهذا الرجل، وهي قليلة بالقياس مع الذين عاشرهم سنوات عمره، فالمرحوم كان قد أمتهن طوال عمره مهنة التعامل مع الذهب «صياغة وتجارة وبيع وشراء»، هذا يعني التعامل مع سلعة غالية الثمن، تقدر بالأونصة «حوالي 31 غراما»، بالتالي فالمتعامل مع هذه السلعة يحتاج إلى مزيد من الدقة والأمانة، خاصة وأن حالات الغش في الذهب عديدة مثل الغش في العيارات، أو الغش بالخلط مع أشياء أخرى أقل ثمنا من قبيل الأحجار، فضلا عن قيم المصنعية «الصياغة» التي تشكل الفارق غالبا في قيم وأثمان المجوهرات، فقد تقدر قيمة المصنعية بألف ريال، ويمكن أن تباع بألفي أو الفي ريال، وكلّها قد تنطلي على المستهلك العادي، خاصة وإن هذه السلعة تتقلّب أسعارها حسب السوق العالمية، وهي مرتبطة بالعديد من التقلبات والتطورات في الأسواق العالمية، والتي تنعكس بصورة أو بأخرى على وضعنا في السوق المحلية.

وفي هذا الشأن جرت قصص كثيرة لدى المرحوم اثبتت أن معدنه أغلى من الذهب، ويتعامل مع الآخرين ومن خلال هذه السلعة بثقة قد تكون عمياء، فتجد أن المرحوم وبصورة تلقائية وعادية جدا، وتحصل كل يوم له بأن يسمح للمرأة الفلانية أن تأخذ هذه المصوغة «العقد أو الأساور أو الخواتم»، لتجرّبها إذا لم تعجبها يمكنها أن ترجعها، وقد تعرّض رحمه الله إلى لحوادث سرقة، لكنه لم يتخل عن سجيته في التعامل مع الآخرين بكل ثة.. وقد يؤجر بعض المصوغات باهظة الثمن دون أن يأخذ ضمانة عليها من المستأجر غير الإسم، أو أسم قريب معين، ومن الطبيعي أن يقول جعفر لواحد «أو واحدة» من زبائنه بأن تؤجل عملية الشراء لأن السعر في الوقت الحاضر مرتفع، أو يؤجل عملية استلام حقه المادي حتى تنخفض الأسعار، فيأخذ بالسعر الجديد، رغم أن هذه العملية قد تؤدي إلى انخفاض عائداته من العملية.

والأمر الآخر، إن خصوصية سلعة الذهب ليس في قيمتها وحسب، وإنما في الزبائن الذين يتعاملون معها، وهم في الغالب من العنصر النسوي، فتجد القليل من الرجال من يقصد محل الذهب ليشتري شيئا، وحتى لو أراد أن يشترى هدية لخطيبته أو زوجته، أو ”شبكة“ زواجه، فإنه قد يقصد المحل مع واحدة من أخواته أو محارمه، فهن صاحبات نظر في هذا الشأن، من هنا فإن التعامل مع النساء يتطلب الكثير من اللباقة والدقة والتدين، فمن خلال التعامل مع هذه السلعة مع العنصر النسوي يمكن أن يدخل الشيطان في وسط العملية، ليس في الجوانب الأخلاقية وحسب، وإنما في الجوانب المالية، فيقوم بإغراء النساء لشراء هذه السلعة وبالسعر الذي يريده التاجر، وقد تنطلي العملية على الكثير من النساء، كما يحدث في أسواق الملابس والأحذية.

لقد نجح المرحوم في التعامل مع سلعة الذهاب ومع النساء المتعاملات معه، وهن بمساحة جزيرة تاروت على الأقل، أي أن كل نساء البلاد من الكبار والصغار يعرفن هذا الرجل وقد تعاملن معه بمستويات مختلفة، فلم يجدن منه الا الخلق الرفيع والأمانة والثقة.. أقول ذلك وقد شهدت وشهد غيري له مواقف نبيلة على هذا الصعيد، وقلّما تجد إمرأة من بلادنا الغالية تقول بأن المرحوم قد قام بغشّها في سلعة معينة، أو صدرت منه هفوة غير لائقة من هنا وهناك، رغم ما يتسم به من شفافية وروح مرحة.

يضاف إلى كل ذلك، وما يحمله من صفات شخصية، فهو لم يتأخر يوما عن دعم المشروعات الاجتماعية في الجمعية والنادي والمسجد وغير ذلك، ولأن المواقف كثيرة، لذلك تجد أن الكل قد شهد بها، والكل عبّر عن رأيه حيالها، ولم يكن أحد مجبرا لأن يحضر الجنازة في ليلة الجمعة، ولكن الجميع بكل عفوية انطلقت لتشييعه من منتصف جزيرة تاروت إلى مثواه الأخير محفوفا بالحزن والألم والبكاء، والدعوات له بالرحمة.

رحم الله الفقيد وأسكنه الفسيح من جنته.