آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

أيها القانط

أيها الإنسانُ الحزين حقَّ لك الحزن فأشباحُ الحزنِ وصورها لا تنفك صفوفاً متراصةً ليلَ نهار أمامَ منصة عينيك. أوديةُ الوجعِ تحوطها جبالُ الهم لا تستطيع الرقي والخروجَ منها، حقَّ لك أن تحزن. انت جزءٌ من عالمٍ  أصابَ عيونه رمدُ الحزنِ فلا بد أن تعلقَ نارهُ بذيلك  وحَقٌّ لي أن أدعوكَ لتفرح!

ها نحن في أواخر شهر شباط وما غامتْ السماءُ إلا وجادتْ بديمهَا. وما جادت بديمها إلا بدت بعدها زرقاءَ صافية. ليس الحزنُ إلا مطر النفسِ المكلومة متى ما أمطرت أفرغت آلامها وأوجاعها وعادت إلى صفائها، لا يخلو منه مخلوق. يذكر التاريخ أن ذا القرنين لما حضرتهُ الوفاةُ أوصى أمهُ إذا هو مات أن تصنعَ طعاماً وتجمع نساءَ أهل المدينة وتضعه بين أيديهن وتأذن لهن فيهِ إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئا فلما فعلت ذلك لم تضع واحدةٌ منهن يدها فيه فقالت لهن سبحان الله كلكن ثكلى! فقلن أي والله ما منا إلا من اثكلت فكان ذلك تسليةً لأمهِ ولمن بعدها.

من نواميسِ الكون التداول. لن نملك كل ما نهوى وما عندنا الأمس عند غيرنا اليوم وما عند غيرنا اليوم ربما يأتنا أو غيرنا في الغد. لا يستثني القانونُ المالَ أو الصحةَ أو العمر أو المنزلة. لو أيقنَ الناسُ بهذا ما جزعوا لكننا البشر نريدها مجتمعةً وليس بعضها.

أيها الحزين افتح عينيكَ وأبصر الضياء، قف على قدميكَ وامشي، افتح فمكَ وغني، أصخ بأذنكَ واسمع نداء الحياة، اقترب من الازهارِ وشم رائحتها، مدَّ يديك الخشنتينِ المتعبتينِ من الكدحِ والعملِ والمس من تحب. تحسس روحكَ الطليقةَ وعقلكَ الحر،  من عنده كل هذا لا يحزن.

إرفع رأسكَ إن كنتَ ترى سقفاً يمنعنك أن ترى النجومَ سألومكَ إن حزنت. ملايينٌ من البشرِ سقفهمْ السماءُ البعيدة. يبتأسونَ متى ما فرحَ غيرهم بالبردِ والحر والمطر وبأشعةِ الشمس التي تستأذن دخول نوافذهم المغلقة.

إلمس بطنك، إن كنت شبعاناً فلا تحزن. كم من البشرِ نامَ تحت السماءِ ومرت الساعاتُ ولم يذق غير الشكوى من الجوعِ والألم. ضع يدكَ على ظهرك إن كان عليك كساءٌ يسترك فلا تحزن. تحسب الدنيا أناساً أبناءَ ضرتها وتحرمهم ما يجملهمْ من كساءٍ أمام نَاظِرَيها.

أيها القانط، أنظر حولك إن رأيتَ من تحب فلا تحزن. لم تبقِ الارزاءُ أحداً لم تبتل عينهُ فلا تمر لحظةٌ على البشرِ إلا ويرزأْ فيها أحدهم وفي حروبِ عالمنا المجنون لا تدري من يحاكُ له الرداءُ الاسودُ ليلاً.

أنتَ نمت البارحةَ على فراشِ العافية في هدوءٍ وسكينة ولم تتقلب من الاوجاع والاسقام فأنتَ تملك الحياة. لا ينفع الغني جبال الذهب وأسِرَّةُ الحريرِ إن كان لا يأكل ما يحب أو ينام متى ما تعب. استفقتَ لابساً رداء الصحة فلا تلتفت، هي تقول للذهب والحرير اتبعاني.

حق لي أن أحزنَ أنا وغيري ألا نجتمعَ لرفع سيف الحاجة عنك. لا تلم البشريةَ على موتِ أحاسيسها فهي ميتةٌ بكليتها. لا تتألم ولا تسمع ولا ترى ولا تحزن. ما لم يكن جسدكَ تحت أَدِيمِ الأَرضِ لا تقنط ولا تحزن...

مستشار أعلى هندسة بترول