آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

ابناءُ الارض

أنا ابن الأرضْ، لوني يشبه لونها. متى ما أمطرتْ جاءت رائحةُ المطرِ من روائحِ أجدادي السابحة بين سمائها والأرض. ومتى ما اغبرتِ السماءُ حملت رائحتي. لا تدعوني لحبها أنا أحبها. في الثامنة عشر نظر إلي كاتبُ القيدِ ولم يسأل عن لوني، كتبَ في سجل القيدِ حنطي اللون. لم يزرع والدي الحنطةَ ولكن زرع لوني في طلع النخل.

بريقُ الذهبِ يغري الكثيرَ بهجرِ تربته وتركها، انا لن اتركها. في لغتي ليسَ كُلُّ ما يلمع ذهباً ولكن لمعانُ ارضي هو الذهب. يختلفُ الناسُ في الدينِ والسياسة والاقتصاد وفي كُلِّ شيء لكن لا يختلف العقلاءُ في عشقِ أرضهم، يفرقُ البشرَ الدينارُ فيصير رماحاً في الأيدي ومعولاً، العالم، الجاهل، الغني، الفقير كُلٌّ يملءُ جرته من جداولِ الجشع إلا قليلاً منهم ويجمعهم كلهم وطنهم.

نسيرُ في شوارعها، نزور مدافنها، تحتَ كُلَّ صخرةٍ وكل شجرةٍ نرى ونقرأ فيها أسماءً نعرفهم. سكنوها وآمنوا أن عالميةَ الأرضِ هي سفينةُ البشرِ التي حملتهم إلى شواطىءِ أرضهم التي باركوها منذ أن حطت فيها أقدامهم. سكنوها حين لم يكن هناك ما يكفي لهم من الترفِ وصبروا على شظفِ العيش، لم يجذبهم الجانبُ الآخر المعشوشب. عاش أجدادنا أحلامهم وآمالهم وورثنا تلك الأحلامَ والآمالَ ونورثها من يأتي بعدنا.  عرفتْ الأرضُ فينا المحبةَ وأحبتنا ورأت الجِدَّ واعطتنا ما في باطنها من الذهب. إن حبها لا يحتاج إلى دعوة.

سألتُ روح أبي بعد موته لم عادَ أبي من سفرهِ حين سافر صغيراً؟ أجابت روحه إنه سافر في جسده دونها وتركها فكان لا بد أن يعودَ ليلتحم الجسدُ مع الروح وهكذا كانوا عندما يركبونَ البحرَ يعلقونَ أرواحهم على الجدرانِ فإن ابتلع البحرُ أجسادهم كانت أرواحهم في المرفأ.

صغاراً في المهد لم تجد امهاتنا كلماتٍ تهدهدنا بها سوى ما كانَ في قاموسِ الأرضِ من نخلٍ وماءٍ واحجارْ وتاريخَ من مضوا من أمهاتهم. سكنوا بيوتاً جدرانها وسقفها من النخل الذي سقاهُ ماءها. يولدُ كل البشر من أُمَّين، أمٌ تحملهم في بطنها وأمٌ تحملهم على ظهرها وكلتاهما سبب وجودهم وسر ديمومتهم، يفقدون الأمان إن يفقدوها.

لم تضقْ أرضٌ بأهلها ولكن أهلها يضيقونها ويضطرُ بعضُ أهلها أن يجدَ مراغماً يهرب إليه ويتخذهُ موضعَ إقامة ومكان هجرة يكون فيه متَّسعاً بعد من ضيق ولكن تبقى عينه على الساحلِ ربما تغيرت الأقدارُ ويركب في السفينة التي حملت أوائلَ البشرية بعد الطوفان مرةً أخرى. يختلفُ الإنسانُ عن الشجرةِ التي تنمو حين نوفر لها أرضاً تشبه أرضها ولا تنتقل أحاسيسها معها وأناسها وتاريخها.

كانت بالأمس الأرضُ عالميةَ الهوية يحط المرءُ أينما وجد ينبوعاً من الماء وشجرة. أما الآن ففي كل أرضٍ علمٌ وأناسٌ تحرسه بالبارود من الغرباءِ ومن يحلمُ بعبور حدودها، وفي كُلِّ يومٍ تزدادُ الحدودُ حدوداً. نصلي بعد أن تخمد نارُ العالمِ ويعود الملايينُ من البشرِ الذين تركوا أرضهم التي هجروها حتى يصبحَ لونهم من لونها ويجدونَ معنى الحياة فيها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 14 / 3 / 2018م - 7:03 م
بين صراعات وتلاطم أبناء الأم الأولى ( الأرض )، يأتي من يتحدث بحكمة بالغة حتى نشعر بهذا الإنتماء الجميل ونعود بطواعية لها بعد أن عبثت بنا السنين وظننا أن الأرض قد لفظتنا ، أعدت قراءته مرات ومرات وكم أعجبني ماكتبت ، جزيل الشكر لكم .
مستشار أعلى هندسة بترول