آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

خواطر حول الأمن والدولة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في اجتماع مع نخبة من المثقفين، قبل أسبوعين، كان الحديث عن عودة العشيرة والقبيلة، في عدد من البلدان العربية العريقة، كوسيط بين الدولة والمجتمع، بعد أن ساد اعتقاد واسع، بأن هذه البنيات الاجتماعية، التي تعود إلى ما قبل تأسيس الدولة الحديثة، قد اندحرت إلى الأبد، بفعل التطورات السياسية والاقتصادية التي أخذت مكانها في العقود السبعة المنصرمة.

ويقيناً أن عودة شبكة العلاقات الاجتماعية القديمة مجدداً إلى الواجهة، سيكون عائقاً رئيسياً في بناء أطر الدولة الحديثة بشكل صحيح، وسيحول دون خلق علاقات تعاقدية حقيقية بين الدولة والمجتمع، كما أنه سيخلق ظواهر معيقة للتطور والتنمية والبناء. وبالتأكيد فإن من شأن ذلك أن يجعل من أمتنا خارج التاريخ، وبعيدة عن مناخ العصر الذي نعيشه. كما أن من شأنه أن يضع حاجزاً سميكاً بين البناء الفوقي وبين السفوح والوديان.

ما يهم في هذه القراءة، هو فهم أسباب عودة هذه الظاهرة، إلى كثير من مجتمعاتنا العربية، باعتبار التشخيص أمراً أولياً ملحاً إذا ما انعقد العزم بقوة على تجاوز هذه الظاهرة السلبية.

القراءة الصحيحة، للواقع العربي، لا تدعم القول بأن البنيات القديمة في المجتمع العربي، قد تم تجاوزها نهائياً، وما برز في الثلاثة عقود الأخيرة، من عودة فاقعة لتلك البنيات، هو خروج من الكمون، إلى العلن، نتيجة الأحداث السياسية التي عصفت بالمنطقة، منذ بداية التسعينات من القرن الماضي حتى يومنا هذا.

وهذا السياق، يقتضي القول، إن أحد مصادر شرعية الدولة الحديثة، هو تمكنها من فرض سيادتها، ضمن حدود الدولة المعترف بها. والسيادة لا تعني الجباية وفرض الهيمنة على الناس، ضمن تلك الحدود، بل تعني أن الدولة موجودة فعلياً بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وحالتها التعاقدية، والخدمات التي تقدمها للشعب، في جميع المناطق، ومن غير تمييز بين منطقة وأخرى.

للأسف هذه الشرعية منتقصة، في جميع الأقطار العربية، من غير استثناء، وإن كان ذلك بنسب مختلفة. ففي معظم الأقطار العربية، هناك ما يطلق عليه علماء التنمية، التطور غير المتكافئ. فالمدن الكبرى تستحوذ على الحصص الرئيسية في التنمية، وتنال معظم الامتيازات. وفيها تتمركز مقرات الدولة. ولذلك تكون مناطق جاذبة لهجرة المواطنين في الأطراف، حيث الحال أقل ضنكاً وأفضل بكثير مما هي عليه بالمناطق النائية.

أوضاع المناطق النائية، هي أكثر ما يهدد شرعية النظم السياسية العربية. ففي هذه المناطق تكون شبكة العلاقات القديمة قوية وراسخة. وهي بيئة ملائمة للأفكار القدرية والجهل والخرافة. كما أنها هي المناطق الأكثر تخلفاً وفقراً ومعاناة. ولذلك لم يكن غريباً أن تكون هذه المناطق هي الحواضن الرئيسية للإرهاب، المتلفع بالإسلام، والذي برز بكثافة في العقود الأخيرة، وبشكل خاص في خريف الغضب العربي، الذي حمل عنوان الربيع.

لقد وجد قادة ما يعرف بالإسلام السياسي، منذ البداية ضالتهم في هذه المناطق، وبدأوا في استقطاب الجمهور وخلقوا حواضن لهم فيها. فكان ما شهدناه من شلالات دماء وانهيار نظم وكيانات، وانبثاق لهويات سحيقة، ساد الاعتقاد باندثارها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، نأخذ العراق مثلاً. فهذا البلد الذي أشارت تقارير اليونسكو في نهاية السبعينات، إلى أنه تمكن من القضاء على الأمية. والذي شهد تنمية اقتصادية واجتماعية واسعة، بات في السنوات الأخيرة، مرتعاً للإرهاب وصراعات الطوائف والأقليات، وعودة البنيات العشائرية بقوة في جميع أنحاء البلاد، منذ التسعينات من القرن الماضي، وتحديداً بعد حرب الخليج الثانية.

خاض العراق حرباً ضارية ضد إيران استمرت ثماني سنوات، وخرج بعدها غارقاً بالديون. ولم تمر سوى فترة قصيرة، حتى حدثت حرب الخليج الثانية، التي انتهت بهزيمة الجيش العراقي، وفرض حصار قاس على العراق، من ضمنه حرمان العراق من تصدير منتجاته الاقتصادية، ومن ضمنها تصدير النفط. وقد استمر ذلك ثلاثة عشر عاماً، وانتهى بالاحتلال الأمريكي لهذا البلد العريق عام 2003.

خلال فترة الحصار ضعفت سيطرة الدولة على الأطراف، حيث لم تتوفر لديها القدرات المالية، لمواجهة احتياجات تلك المناطق، بما في ذلك تحقيق الأمن. فكان أن لجأت القيادة العراقية، إلى استثمار شبكة العلاقات الاجتماعية القديمة، لتكون بديلاً عنها في تلك المناطق، ولتكون وسيطاً بين الدولة والمجتمع.

استرخاء قبضة الدولة على كثير من المناطق، أتاح أيضاً للأحزاب الطائفية الفرصة، لتأكيد حضورها واستقطاب الجمهور من حولها، وجعلها جاهرة للعب دور رئيسي في سياسة العراق، في الحقبة التي تلت الاحتلال مباشرة، وحتى يومنا هذا. الخروج من هذا المأزق، وهزيمة شبكة العلاقات القديمة، عشائرية وقبلية وطائفية، لن يكون ممكناً بالتبشير والتثقيف فقط، بل بتغيير واقع الحال، وخلق الشروط اللازمة لتجاوز هذا المأزق.

إن من شأن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أن تخلق واقعاً جديداً، تغلب فيه قيم التسامح والحرية، والإيمان بالفرد وبقدراته المبدعة على المساهمة في التنمية والبناء، بما يؤكد حضور الدولة على كل الصعد، ويلغى أي دور وسيط بين الدولة والمجتمع، ويحقق الأمن والاستقرار للجميع.