آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

من ذاكرتي - لطائفُ الحج

ذكرى الحج ليس فيها جناسٌ أو طباقٌ أو بديع الكلام لكنها لا تخلو من بديع الفعل. في كُلِّ رحلةٍ طرائفَ وإن قصرت كما هي رحلة الحج التي عادةً ما تكون قصيرة في سنواتنا وشاقةً تصحب فيها أناساً لا تعرفهم من قبل. استراحَ الناسُ في الخدمةِ في موسم الحج وسهولةِ المواصلاتِ والتواصلِ إلا أن الرحلةَ تبقى صعبةً وتزداد مع الزمنِ لكثرةِ الحجاجِ واختلافِ عاداتهم وأجناسهم وكلفتهَا المادية.

رحلة الحج الثانية كانت مع المتعهد من العوامية الحاج نصر الفرج عام 1988م حيث الخدمات كانت أفضل وكان معي زوجتي وكثيرٌ من الأصدقاء. بعد الإنتهاء من أعمالِ يومِ التاسعِ في عرفة تعطلت الحافلاتُ المكشوفة السقف صفراءَ اللون التي كنا فيها قاصدين مزدلفة. طُلِبَ منا النزول والمشي على الأقدام. نزلنا وكنا بادئ ذي بدء نقوقُ المائة ومرشدنا الشيخ علي آل محسن من سيهات. ظللنا نسير والعدد يتناقص حتى وصلنا مزدلفةَ مع الفجرِ حوالي العشرين شخصاً. صلينا الصبحَ بإمامةِ الشيخ علي وانطلقنا وبعد دقائقَ كنت أمشي بمفردي إلى منى. كان الشارعُ الداخلَ إلى منى مزدحماً كدت أفقد حياتي مراراً وكنت حينها شاباً فتياً في الثلاثيناتِ من عمري حاملاً حقيبةَ أدويةٍ ومخدةً أوصاني أحد الحجاج بحملها فتخلصت من كليهما ولم أنجُ من الزحامِ ألا بعد جهدٍ شديد.

دخلت منى وكنت لا أعرف مكان المجموعة لأنني ظننت أني لن أفترق عنهم ولا داعي لمعرفة المكان. لم يكن حينها يوجد هواتفُ جوالة، فقط هواتفَ عامة في الشوارع يقصدها الحجاجُ في المشاعر وفي مكة والمدينة للاتصال بذويهم. مشيت على غير هدى ودخلتُ في زقاقٍ عند العقبةِ الصغرى بالقربِ من مسجدِ الخيف بغرضِ الراحة. كانت الساعة التاسعة صباحاً وكنتُ عازماً أداءَ ألأعمالِ منفرداً ومن ثم الالتقاء بالحملة. إقتربت من جدار حوشٍ كان في آخرِ الزقاق على اليمين ويا للعجب كانت هناك لوحة معلقة على الحوش ومكتوبٌ عليها ”حملة الفرج“!

في ذاتِ الرحلة خرجتُ أتجول في مكة مع صديق والتقينا شيخاً تائهاً لا يعرف مكان إقامةِ المجموعة التي كان برفقتهم. أخذناه إلى مكان سكنه وفي اليوم التالي التقينا إمرأةً تبحث عن نفس المجموعة. أوصلناهَا وتبين أنها زوجة الشيخِ الذي كان تائهاً عن سكناه بالأمس.

مع حملة الرسالة من الأحساء وكان برفقتي زوجتي وإبنتي الصغرى أردنا الطواف للعمرة حملتُ كيساً فيه الأحذية. سألتني زوجتي عن الكيس بعد الطواف ولم ألحظ أني فقدته مع الزحام فقلت لها إن الكيس ضاع مني فينبغي أن ننهي أعمالَ العمرة ونشتري أحذيةً غيرها. توجهنا للخروجِ من المطافِ المزدحم ولك ان تتخيل كيساً وسطَ الزحامِ والمطاف دائرة في 360 درجة والكيس تتقاذفهُ آلافُ الأرجل ولكن من لطائفِ القدر أن الكيسَ كان في انتظارنا عند ماء زمزم!

لو سألك شخصٌ وأنتَ في زحمةِ الطوافِ هل تعود للحج؟ في لحظاتِ ضعفك الجسدي ربما لا يأتي الجوابُ نعم ولكن لا يكاد ينتهي يوم العيد حتى ترى نفسكَ تحدثك العودةَ وبعد ظهر اليوم الثاني عشر تقول لا شك أنني أعود مرةً أخرى. لا يستطيع كُلُّ مسلمٍ أن يأتي الحجَّ ومن يأتي يتمنى أن يحضر كُلُّ البشر ليروا عظمةَ الخالقِ حين يأمرهم أن يأتوا وليس حين يأمرهم غيره.

يكشف السفرُ عن معادنِ البشر ويعريها الحجُّ في حاجةِ الناس لبعضهم. تبكي عيوننا دموعاً على معادنَ كانت راقيةً مثل اللؤلؤِ في أصدافِ الدنيا عرفناهم في تلك الرحلات. إذا كنت في حج السنةِ واعد نفسكَ أن تحضر في العامِ القادم، سوف يعطيك الأملُ في قدرةِ الرب الحضور والبقاء حتى ذلك الموعد. يطاردُ العمرَ صيادُ الأجل فإن أعطتك الأقدارُ فرصةً أن تدوسَ أرضَ مكةَ الملتهبةَ في حرارةِ شمسِ الأرواح إفعل، لا تؤجلها...

مستشار أعلى هندسة بترول