آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

غربة دلوار

المهندس هلال حسن الوحيد *

عَمِلَ عندي ”دلوار“ في الثامنةِ والعشرينَ من عمره من بنجلاديش في أرضٍ صغيرة. لم يعرف الغربةَ إلا بعد أن صارَ عنده ثلاثةُ صغارٍ يحتاجونَ الغداءَ والمنزلَ والكساء. عبرَ دلوار شهورَ الصيفِ الحارة رجاءَ أن يأتيَ الربيعُ ولكنه لم يستطع أن يتجاوزَ عاطفته وألمَ فراق الثلاثة.

ملايينٌ من الآباءِ والأمهات يهجرونَ بلدهم وتطول غربتهم لا يرونَ إلا أطيافَ صغارهم، يبكونَ بصمت. كم من مرةٍ سألتُ نفسي ماذا لو كنتُ أحدهم، من فقراءِ العالم الذين رحلوا وتركوا أهلهم؟ الآنَ وأنا شجرتي في خريفِ أيامها أقولُ رحماكَ يارب، سؤالٌ لم يضطرني الزمنُ للإجابةِ عليه. ماذا عنك؟ لو اصابكَ قانونُ التداول ”وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ“ وقالَ لك الدهرُ كُلُّ القراطيسِ وكل المعرفةِ والوجاهة لن تنفعك. عليك العمل في ديارِ الغربةِ التي جاءَ منها دلوار، تعمل وتأكل القليل وتتعب ثم تنام رجاءَ أن تنقضيَ السنتانِ وتلمس يدي صغاركِ وتشمَّ عرفهم مرةً أخرى قبلَ السفرِ التالي، ماذا أنتَ صانع؟ ناجِ الربَّ وارجوهُ الليلةَ ألا يكون ذلك، لا حصانةَ في تاريخِ الأممِ، سُنَنٌ لا يشذ عنها أحد…

اختلقَ دلوار حكايا ملؤها الألم رجاءَ أن يحصلَ على بطاقةِ سفرٍ تعيده لوطنه، مرةً زوجته على شفيرِ الموت ومرةً يبكي حتى يغمى عليه، وأخرى سوف ينهي حياته، لا يرى الحياةَ إلا من وجوههم. يحدث هذا في الصباحِ والمساء حتى الطيور هجرت المكانَ لم ترغب سماع صراخه. أنا استشعرتُ السكينةَ عندما تركتهُ يعود ورجوت الربَّ ألاَّ يكون ابني يرجو من ابنه ذلك الرجاء ويقول له لن تعودَ لأهلك ووطنك! تشدنا الأمُّ والأبُ ثم الأرضُ والأصدقاءُ والأبناء، كلها تقول لنا لا تذهب بعيداً وابقى ولكن ألمَ الجوعِ والعري ينافس كل المشاعر الإنسانية، ساعةً له الغلبة وساعةً يخسر. عواطفُ ومشاعر لن نعرف كيف ومتى ولم جاءت نحن البشر الذين ننظر لها بعين إنسان.

هل يأتي يومٌ ولو في الخيالِ أن يعملَ الإنسان ألافَ الأميالِ بعيداً عن وطنهِ ويطير فوقَ السحابِ وفوقَ الغيوم متى ما أراد دونَ أن يطلب الرخصةَ من غيره، يرى أهله ويشم ترابَ وطنهِ ثم يعود؟ يبقى ذلك العالم السحري في خيالِ الصعاليكِ وفي واقعِ المترفينَ والأغنياء!

مستشار أعلى هندسة بترول