آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:38 ص

العطار

المهندس هلال حسن الوحيد *

ليس هناك داءٌ ليس لهُ عند العطارِ دواء، الشيبُ والضعفُ والدمامة، ربما بقيَ الموتُ والحماقة لا يستطيع أن يبيعكَ لهما دواء، إذاً كيف يمرض العطار ويموت؟. العطار هذا هو من جنس البشر، أوجد جميعَ الحلولِ لمشاكلِ غيره ولكنه لم يحلَّ مشكلةً واحدةً لنفسه. لا يزال يعاني الفقرَ والمرضَ والبطالةَ والحروبَ والبؤسَ أينما وطأتْ أقدامهُ الأرض.

من لم يولد في الماضي القريب لا يخطر في باله كيف صَغَّرَ الإنسانُ آلةَ الحاسوب في مدةٍ قصيرة وزادَ في عقلها وقدرتها حتى أصبحَ الإنسانُ يخاف من بطشها وفي الآن ذاته صَغُرَ عقلُ ذاكَ الإنسان ولم يستطع أن يعرفَ حقيقته ويوجد لها حلاً مناسباً.

في الثمانيناتِ من القرنِ الماضى عندما درسنا مادةَ الحاسوبِ في الجامعة لم نكن نرى تلك الآلةَ الضخمةَ أو نلمسها بأيدينا أو نستطيعَ شراءها. كان علينا أن نكتبَ درسَ المادةِ الذي هو في العادة حل مسألةٍ ما على بطاقاتٍ ورقيةٍ مستطيلة تحفر فيها الآلةُ ثقوباً يستطيع الحاسبُ ترجمتها إلى أوامرَ وكلمات، ثم نأخذها إلى حجرةٍ فيها رجلٌ يشغل الحاسوبَ ويضع فيه البطاقاتِ الورقية. نأتي بعد ساعاتٍ ونجد ورقةً خضراءَ مخططةً بخطوطٍ بيضاءَ موضوعةً في الخارجِ بأسمائنا وفيها نتيجة العمل. يعترينا الغمُّ إذا لم نحصل على النتيجةِ السليمة إذ يكون لزاماً علينا أن نعيدَ المحاولةَ مرةً أخرى.

عندما جاءت الشاشة البيضاء والسوداء دون ألون عام 1983 - 1984م واستطعنا التواصلَ عن طريقها بالحاسوب والحصول على النتيجةِ في دقائق نراها أمامَ أعيننا كانت فرحتنا لا توصف حيث نصطف ونأتي قبل الإزدحامِ للحصولِ على مقعدٍ فارغ.

هو ذاك الإنسان الذي تسارع في تصغيرِ الآلةِ وإعطائها الشكلَ واللونَ الرائع والعقلَ والقدرةَ على التفكيرِ ومساعدته في جميع حاجاته يبقى العطار الذي لا يستطيع إيجادَ الحلولِ لمشاكلَ صغيرة بل يبقى يبيع الوهمَ في أنها سوفَ تنتهي يوماً ما. أوصدَ الإنسانُ أبوابَ ونوافذَ عقلهِ عن التفكيرِ في حلولِ المشاكلِ الإنسانيةِ الصرفة واكتفى بالعملِ على حلولِ مشاكل الآلة التي أذكاها من تصيبه بدقةٍ متناهيةٍ فوقَ رأسه وتقتله.

نفعت الآلةٌ الإنسانَ الذي عمل عليها ولكنها لن تبكي مآسيهِ ولن تفهم سببَ بكاء ثكلاه ولن يفترَّ ثغرها عن ابتسامةٍ عندما يفرح. تبقى المعضلةُ أن الإنسانَ لو لم يجد آلةً يحارب بها الإنسانَ لحاربهُ بيدهِ وأسنانه! لن يستطيع الإنسانُ أن يصلح نفسه إلا إذا استطاعَ العطارُ أن يصلحَ ما أفسده الدهرُ وهذا ضربٌ من المحال.

مستشار أعلى هندسة بترول