آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

الكلمة جرح مفتوح على الاحتمالات

محمد الحرز * صحيفة اليوم

المعنى الذي يربيه المرء في حياته لا يكبر أو يصغر، ولا يلتفت أو يتراجع، هو حصان اللغة النافر ترويضه في مضمار اللعب يختلف عن ترويضه في الحياة. الأول مشروط بالحدود بينما الآخر لا مشروطية له، ولا يعني سوى الدخول في عبث اللا نهايات. لكن الأمكنة ليس وجه الاختلاف ها هنا، إنما الاختلاف يتحدد بالنداء الداخلي الذي لا يمكن قياس مداه إلا باهتزاز الكلمات وهي منشورة على حبال القلب، إلا بالسقوط المدوي للألفاظ من الدور العاشر في عمارة أيامك، إلا بالصعود إلى أعلى برج في المدينة ومن ثم الترقب والانتظار كي تأخذ صورة «سلفي» قبل وبعد النداء.

التمايز بين الأمكنة بهذا المعنى هو حالة صفرية خالية من الأعداد والرموز، يكون المضمار وأفق حدوده مبنيا على روافع العقل والمخيلة، ومكتوبا وفق إحداثيات اللغة في التاريخ. كثيرون راهنوا على رؤية ما لا يمكن رؤيته بالنظر، أخذوا معهم مناظير ليلية، تسلحوا بالوقت حتى لا تفر فئران الحياة عن تجارب المختبر، ويطمئنوا أن الضباب الذي يحيطهم من جميع الجهات ليس سوى مؤشر على أن اللعبة على وشك الانتهاء، ثم جاء كثيرون لا حقا وبنوا منازلهم على فكرة الانتهاء ذاتها. البعض من هؤلاء يعيشون في ثقب إبرة، ويطلون على العالم من أزرار الكون على الرغم أنهم لم يتخلصوا يوما ما من الخيوط الكثيرة المهترئة في لغتهم، وإذا ما أرادوا المراوغة تكلموا عن كثرة المترادفات التي تدل عليها كلمة «الضباب». بينما بعضهم الآخر صاروا يعيشون في حوض صغير لأسماك الزينة يحلمون أن تصبح لغتهم يوما ما حوتا لا يضاهيه حجما وقوة أي حوت آخر في البحر. أما في الحياة فهناك التمايز مطلوب ومشروط أيضا، ومن أهم علاماته: خروج الأمكنة من اللغة، واقتصار هذه الأخيرة على ما ينسجه العنكبوت من كلمات حول الجسد فقط، دون أن يعني ذلك - من جهة أخرى - اندياح المكان والفضاء دون حدود. بل التمايز ينبع من كون اللغة في عمقها لا تصرخ، حتى عندما يسقط الإنسان من رحم أمه على ظهرها لا تتوجع، ولا تشعر بالضجر عندما يبكي. خلاف الحياة التي تحتفظ بمتحف كبير للتمايز في كل شيء يمسه الإنسان أو يتركه خلفه دون أن يشعر أو يرى. حتى كأنه لا يكتشف شيئا من أسرار الحياة إلا وتبع ذلك اكتشاف آخر تمارسه الكلمات بطريقة عفوية، وهذا هو معنى اللعبة وشروطها في مضمار السباق.

لكن ماذا لو استطاع المرء أن يروض حصان اللغة النافر دون الحاجة إلى شروط اللعبة تلك؟ ماذا لو لم يستعن بحوذي متمرس على الترويض؟ ماذا لو كان صهيله هو نداؤه الداخلي؟ ماذا لو سقطت دمعة من جفن الحصان وأغرقت كلماته في الوحل؟ هنا لا بد أن يحدث الحريق في منزل اللغة الكبير، ولا بد أن تخرج السلالم من مخيلتك، وتضعها مباشرة أمام النوافذ، وإذا ما استطاعت كلماتك الخروج سالمة فإنها رغم ذلك سيطال جزء منها التلف، وستحمل بالتالي طوال حياتك الحكمة التي تقول: الكلمة جرح مفتوح على الاحتمالات!!