آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

قرن على نهاية الحرب العالمية الأولى

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

يتذكر العالم في هذه الأيام، مرور مئة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى. ففي فرنسا، دعا الرئيس ماكرون عدداً من قادة الدول، للاحتفال بهذه المئوية، من بينهم: الرئيس الأمريكي، ترامب والرئيس الروسي، بوتين والرئيس التركي أردوغان، وعدد آخر من زعماء وقادة الدول للمشاركة في احتفالية تقام في شارع الشانزليزيه بالعاصمة الفرنسية باريس، قريباً جداً من قوس النصر. وليشاركوا الفرنسيين أفراحهم بهذه المناسبة.

لم يكن اغتيال ولي عهد النمسا، من قبل طالب صربي، سوى القشة التي أشعلت تلك الحرب، فكل الظروف السياسية السائدة في القارة الأوروبية وفي شمال وسط آسيا، كانت تنبئ بأن العالم، على أعتاب تحولات كبرى في الخريطة الجيوسياسية، وأن قوى فتية وعاتية تتحضر للإجهاز على النظام العالمي القديم، وإقامة نظام بديل، فوق ركامه.

فالرجل المريض في الأستانة، كان يترنح، تحت ضربات مميتة، أدت إلى اقتطاع أجزاء كبيرة من ممتلكاته، بحيث باتت عملية التمزيق المستمر للأراضي العثمانية، جزءاً من سياسة أوروبية ثابتة، اتخذت في كثير من الأحيان أشكالاً كيدية وانتقامية، بحيث يمكن القول إن الوجود العثماني في القارة الأوروبية، عند اندلاع الحرب، كان شبه معدوم.

وفي روسيا، ضعف دور القيصر، أمام الثورات الشعبية المتلاحقة لنظامه، وأبرزها ثورة 1904، التي وإن تمكن النظام من إلحاق الهزيمة بها، لكن ندوبها بقيت عميقة، وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى، تحرك الجائعون والمقهورون، رافضين المشاركة في الحرب، ومحرضين الجنود على رفضها بالهروب من جبهات القتال. وكانت فرصة سانحة، للذين يتطلعون إلى التغيير للانقضاض على النظام القيصري. لقد حسم الشعب قراره وصمم على التغيير، وصوت الجنود ضد الحرب بأقدامهم. فكانت ثورة أكتوبر عام 1917.

كانت هناك أيضاً رغبة أوروبية، بشكل عام وفرنسية بشكل خاص، للحد من النزعة العسكرية الألمانية، ووضع حد لها. يضاف إلى ذلك رغبة أوروبية حادة لدى البريطانيين والفرنسيين، بشكل خاص ليس فقط للإجهاز على السلطنة العثمانية، بل وأيضاً لتقاسم ممتلكاتها، وغالبية هذه الممتلكات هي في الوطن العربي.

وحين انتهت الحرب، انتهت السلطنة العثمانية إلى الأبد، وتغير النظام القيصري، وبرز أول نظام شيوعي في روسيا بالعصر الحديث، واقتطعت أراضٍ ألمانية واسعة، وفرض على الألمان معاهدة سلام مهينة، عرفت بمعاهدة فرساي، قيدت دورها بشكل شامل في القارة الأوروبية، والعالم.

وبالنسبة للعرب، كانوا الأكثر تضرراً من نتائج هذه الحرب، فقد انخرطوا في هذه الحرب، التي لم يكن لهم في التخطيط لها أو تقرير نتائجها، ناقة أو جمل، على أمل أن يحصلوا على استقلالهم، من الاحتلال العثماني، لكن الأقوياء ليسوا معنيين بمصالح الضعفاء. لقد تكشف أن أهداف الحرب بالنسبة للأوروبيين مناقضة لمصالح العرب، وأن انخراط العرب في التحالف الغربي، ضد الاتراك، كان تعويلاً على الوهم. وقد مثلت اتفاقية سايكس - بيكو، بين البريطانيين والفرنسيين، ووعد بلفور البريطاني، بمنح فلسطين وطناً قومياً لليهود، عن التناقض الصارخ بين المصالح الاستعمارية، ومصالح الأمة العربية.

انتهت الحرب، بتشكيل نظام دولي جديد، هو عصبة الأمم، وإعلان الرئيس الأمريكي، ودرو ويلسون لمبادئه الأربعة التي عرفت بمبادئ حقوق الإنسان، وإقرار حق تقرير المصير.

ولعل أدق توصيف لتلك الحرب، أنها حرب لم تضع أوزارها بعد، رغم ما قيل عن تسويات سياسية وسيادة مبادئ عالمية جديدة، فلم يمض سوى عقدين من الزمن، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية. وقد كانت أشد فتكاً ودماراً، ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر، عدا الجرحى والخراب والدمار. وكما أعادت الحرب العالمية الأولى تشكيل الخريطة السياسية للعالم، فإن الحرب العالمية الثانية، أعادت تشكيل خريطة العالم مرة أخرى، مبرزة نظام الثنائية القطبية، ومعبدة الطريق لإزاحة الاستعمار التقليدي، وتربع الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي على عرش الهيمنة الدولية، وبروز هيئة الأمم المتحدة، بتشعباتها المختلفة، وأهمها مجلس الأمن الدولي، الذي يتمتع فيه الكبار بصلاحية حق النقض، والجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي هم أشبه بمنبر خطابي يعبر فيه الضعفاء من دول العالم، عن آمالهم وتطلعاتهم، واحتجاجاتهم.

منذ انتهت الحرب العالمية الأولى، وتأسست عصبة الأمم حتى يومنا هذا، شنت حروب كثيرة، في مختلف القارات. وإذا استثنينا الحرب العالمية الثانية، فإن نصيب القارة الآسيوية من الحروب التي اشتعلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا هو حصة الأسد. فهناك الأزمة الكورية، والحروب في الهند الصينية، والحروب العربية - «الإسرائيلية»، والحرب بين العراق وإيران، وحروب طاحنة عديدة في دول عربية.

في خريف الغضب العربي، شهدنا أشكالاً جديدة من الحروب، غير المألوفة، عصابات تشكل دولاً، وتعيدنا إلى عصور التوحش والهمجية، حيث القتل يجري على الهوية، ومشاريع تفتيت في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان... وأكثر من خمسة وعشرين مليون عربي مهجر، في الداخل والشتات، وغياب للكرامة والحريات. وجميعها تشير إلى أنه ليس يكفي لمنع الحروب أن تكون هناك مواثيق ومبادئ ومؤسسات عالمية تطرح مبادئ إنسانية، بل لا بد من توفر عناصر بناء الدولة الحديثة في هذا الجزء من العالم، وأساسها الاعتراف بالكرامة الإنسانية، وبالحرية والمساواة واحترام الحقوق.