آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

شطائر الفكر

المهندس هلال حسن الوحيد *

قدمت المدنيةُ الحديثة شيئينِ أضرَّا بجسدِ وفكرِ البشر، هما شطائرَ العقلِ وشطائرَ البطن. سهلت طرق إنتاج الشطائرِ في كلتا الحالتينِ وشجعت سرعةَ تصور إنضاجِ الأكلِ والفكر ثم بثهما واستهلاكهمَا بألوانٍ تغري الناظرَ بجمالِ المحتوى الذي يجلب المالَ الوفيرَ للبائع. لا يستطيع أن يختبئَ أحدٌ دونَ أن يصيبه رصاصُ الإثنينِ ويدمر جسدهُ أو عقله. ولم يعد البشر يطيقونَ أن ينتظروا الفكرةَ تأتي كاملةً ويخرجونَ بعدها في العراءِ وفوقَ الأسطحِ فرحينَ يصرخون: وجدتها، وجدتها!

جلبت شطائرُ الأكلِ السمنةَ لأجسادِ البشر وأصبحوا أضعافَ أحجامهم لكن في نصفِ المِنعةِ من الأمراضِ وقلةِ الحركة ثمَّ أصابت العقلَ بالضمور، صار العقلُ يأخذ التوافهَ دونَ تشكيكٍ ويرفض الثوابتَ دون تثبت. عُرف زهيرُ بن أبي سلمى بأنه من أصحابِ الحوليات في الشعرِ وأنه قال سبعَ قصائدَ في سبعِ سنين. كان زهير يسمي قصائده الكبرى الحوليات إذ أنه كان ينسج القصيدةَ في أربعة أشهر، وينقحهَا في أربعةِ أشهر، ثم يعرضها في أربعة أشهر، ثم بعد ذلك يخرجها إلى الناس. هذا عندما كان الشعراءُ والكتاب يكتبونَ على الورق، وعندما انتقلوا للحداثةِ أصبحوا يخرجون ناتجهمْ الفكري في طريقة الشطائر، في أقلَّ من خمسِ دقائق ومن يتأخر ينصرف عنه الناس.

ماذا عن الشاري، الذي يشتري الشطائرَ كل يومٍ مع أنها تصيبه بعسرِ الهضم والسمنة؟ هو أيضاً صار يصر على ابتلاعِ شطائرِ الفكرِ سواءً علم أنها تصيبه بعسرِ هضمٍ أم لم يعلم، حجتنا البالغة: من يملك الوقت؟ ومن يشك في المصدر ومن يستطيع أن يتأكدَ من أن ما نتلقاه غير مفيد؟

عندما ينشغل الفردُ بأساسياتِ الحياةِ من أكلٍ وحركةٍ وعملٍ لا يبقى الكثير من الهمِّ للفكرِ والقراءة وعندما تأتي الشطيرةُ من مطابخَ لها صيتها في الوجباتِ الصحية فلن يشكَ أحدٌ في جودةِ وجبته السامة، ومن ”لا يعرف كوعه من بوعه“ بالتأكيد لن يعرفَ مقدارَ صفاءِ منبع الفكرِ عندما يكون الفكرُ مصبوباً في قنانيَ ملونةً ومكتوبٌ عليها أجودَ عباراتِ الثقةِ والكمال.

يستمد الفكرُ قوته وطاقته من عمقِ الفكرةِ المفردة التي تختمر في الزمنِ، تتغذى من العقولِ وتتحولَ إلى ضميرِ الجماعة. ويموت الفكرُ إذا أصبح قُوتُهُ يأتي من الوجباتِ السريعةِ السامة تتوافد عليه من كل بابٍ ونافذةٍ ولا يستطيع غير العارف والصبور أن يفلت من سهامها.

رمزية الشطائر انها حلوة المذاق وسهلة المنال، وكيف يعرضها البائع، لكن الشاري ربما يأسف بعد أكلها. الفكرُ الفاسد يأتي من الجهاتِ الست بكل الأنواع والأشكال، حذارَ أن تغوصَ اقدامنا في رماله وإن أصابنا في مسيرنا الجوع وتاقت أنفسنا إلى شطيرةٍ سريعة فلنبحث في المروجِ عن الشجرةِ التي تعطي الثمرةَ التي لا تضر، إذ في حياتنا ليس كل ما يلمع ذهباً، وليس كل ما نراهُ ماءً هو ماء.

مستشار أعلى هندسة بترول