آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

الترميم.. الجديد

محمد أحمد التاروتي *

الانقلاب الشامل على القناعات الفكرية، ليست عملية خاطئة، ولكنها ليست صائبة الوقت ذاته، فادارة الظهر للمعتقدات السابقة لا يعنى نسفها بشكل كلي، كما ان التمسك بالمسبقات الفكرية، لا يتناقض مع التطور الحاصل لدى المسيرة البشرية، وبالتالي فان ايجاد حالة من التوازن بين الاحتفاظ ببعض القناعات، والاستفادة من الحركة التنويرية يشكل حالة صحية.

التطور الفكرى لدى اصحاب الفكر، يدفع باتجاه التحولات الكبرى، وتبديل الكثير من القناعات الفكرية السابقة، بيد ان التحول في تلك المعتقدات لا يعني الانسلاخ الكامل، فهناك بعض القناعات يجري اعادة تقييمها، بما ينسجم مع التطورات على الساحة الثقافية، مما يفرض التحرك باتجاه اعادة النظر، ومحاولة استكشاف نقاط الضعف، والتمسك بنقاط القوة، بمعنى اخر، فان عملية الترميم ليست جريمة كبرى، او خطيئة لا تغتفر، بقدر ما تمثل حالة طبيعية ضمن التحرك البشري، باتجاه خلق المناخات المناسبة، لرفد الحركة التنويرية، والمساهمة الفاعلة في تحريك الفكر الانساني، بالاتجاه الايجابي، بما يخدم الحركة الثقافية بشكل عام.

عملية ترميم القناعات الفكرية، مرتبطة بوجود ارضية قادرة على استيعاب الجديد، ورفض الانغلاق الكامل، مما يساعد في الاستفادة من التطور الحاصل، مع الاحتفاظ بالعديد من المعتقدات، خصوصا وان الطلاق البائن ليس صحيا، نظرا للاثار السلبية المترتبة، على التخلي عن القناعات الفكرية السالفة، خصوصا وان التطور في الحياة الثقافية، لا يعني الانسلاخ الكامل عن المعتقدات السابقة، انطلاقا من قاعدة ”اللي ما اول ما له تالي“، مما يستدعي التحرك باتجاه توظيف الجديد مع القديم، للخروج بمنتج قادر على التأقلم.

استيعاب الجديد بصورة سريعة، ينم عن ادراك باهمية استخدام التطور، في خدمة المشروع الثقافي، لاسيما وان الوقوف او الجمود لا يخدم الحركة التنويرية، بقدر يعرقل الحركة الطبيعية للمجتمعات البشرية، وبالتالي فان وضع النظريات الثقافية الجديدة تحت المجهر، بغرض تشريحها، ومحاولة اظهار الجوانب الايجابية والمضيئة، يقود الى ركوب الموجة بالشكل السليم، مما ينعكس على الحركة الثقافية للمجتمع، نظرا لوجود عناصر اكثر دراية بادوات العصر، والسعي للاستفادة من الجديد، فيما يَصْب في المصلحة العامة، بحيث تشكل طريقة استيعابية، وليست حركة تصادمية.

الترميم لا يشكل حالة انهزامية تجاه الجديد، بقدر ما يكشف المرونة العالية، لدى اصحاب القناعات السابقة، من خلال التحرك الجاد لايجاد مناخ ايجابي، لإظهار القدرة على الامتصاص، لمختلف المستجدات على الساحة، الامر الذي ينسف الاتهامات بعدم جدوى الاحتفاظ بالسابق، باعتباره معرقل للحركة الثقافية التجديدية، وبالتالي فان الترميم ينسجم مع الدعوات الساعية، بعدم التفريط بالمرتكزات الثقافية بدعوى التجديد، وعدم قدرة تلك المرتكزات على التأقلم مع المستجدات، مما يفرض توجيه رصاصة الرحمة، على رأس تلك القناعات الفكرية السابقة.

التجديد بدوره ينم عن ظاهرة صحية لدى النخب الثقافية، في مختلف المجتمعات البشرية، فهو دلالة على استمرارية العطاء، ورفض الجمود والانغلاق، بيد ان التجديد ليس مدعاة لنسف القناعات السابقة بشكل كامل، فالكثير من المعتقدات الفكرية تحمل في طياتها، العديد من العناصر القادرة على الحياة لفترات طويلة، مما يستدعي الاستفادة منها في رفد الحركة الثقافية العالمية، وبالتالي فان ”دفن“ تلك القناعات يحرم البشرية من الاستفادة منها، ويقضي على العقول التي شاركت في رسم معالمها، في الحياة الفكرية.

كاتب صحفي