آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

المفكر الميلاد: خطاب الصحوة مارس الوصاية الفكرية والدينية على الناس

المفكر والباحث الإسلامي الشيخ زكي الميلاد
أريشفية
جهات الإخبارية حوار: محمد أحمد - مجلة الحوار

للأستاذ زكي الميلاد المفكر والباحث في الفكر الإسلامي وجوه فكرية متعددة وسمت انتاجه الغزير والمتنوع، حيث شكلت كتاباته وأطروحاته الغنية في الفكر الإسلامي والدراسات الحضارية وقضايا الهم الوطني والديني مسيرة عطاء لا ينقطع. وكان لحضوره المتميز والمتصل على أكثر من صعيد فكري، من التجديد إلى الحداثة، إلى التواصل، إلى التنوير في الساحة الوطنية السعودية والعربية والإسلامية، الأثر الأكبر في التفاعل الحيوي مع أطروحاته درسا وتحليلا، فيما ارتكزت رؤيته الفكرية / الإسلامية على ضرورة التواصل كقيمة إيجابية في العلاقات بين الذات والعالم، والانهمام بالتجديد كمجال ضروري لتجاوز الانسدادات النظرية للأيديولوجيا، سواء في تعبيرها عن أزمة العقل الإسلامي المعاصر أو في تعطيلها لعلاقة المسلمين مع العالم المعاصر. حول كل تلك القضايا الغنية والمتعددة كان للحوار هذا اللقاء مع الباحث والمفكر الأستاذ زكي الميلاد.

كشفت مرحلة ما عرف بالصحوة بالمملكة، اليوم عن اكراهات أيديولوجية تم تعميمها في تلك المرحلة، كما لو أنها اختيارات دينية ملزمة لمجتمع متعدد ما أدى إلى انسدادات لا يزال المجتمع يعاني من آثارها، كيف تقيِّم تلك المرحلة؟

اتيحت لخطاب الصحوة كامل الفرصة للتعبير عن نفسه أدبا وبيانا، وأخذ مداه زمنا ووجودا، وكسب نفوذا وامتدادا، واستحوذ على إمكانات كبيرة مالية وبشرية، وترك أثرا وتأثيرا، لكن الحصيلة العامة لم تكن مشجعة، ووصل لمرحلة كان بحاجة إلى مراجعات نقدية تكون جادة ومعمقة، لكنها الخطوة التي لم يقدم عليها، ولم يتحسس الحاجة إليها، بل وما كان يريد المكاشفة بها، ولا الإفصاح عنها، إما سدا للذريعة، وإما تحسبا للخصم، وإما شعورا بالاستعلاء.

فقد ظل خطاب الصحوة يتملكه الشعور بالاستعلاء النفسي، ومارس نوعا من الوصاية الفكرية والدينية على الناس، وظل مسكونا بهاجس أدب الخلاف والنزاع، ومتمسكا بذهنية القطيعة والانغلاق، وقدم خطابا تقليديا ينتمي إلى علم الكلام القديم الذي بات عتيقا وجامدا ولم يعد قادرا على مواكبة تطورات العصر، وتجددات الحياة، وتبدلات الزمن، وتراكمات المعرفة.

كما لم يعد هذا الخطاب قادرا على كسب ثقة الأجيال الجديدة، وغير قادر كذلك على الانخراط في العالم، والتواصل مع الثقافات والحضارات الإنسانية الأخرى، والتعايش مع الأمم والمجتمعات المتعددة والمختلفة التي نتشارك معها الحياة في كوكب الأرض.

هل يمكن القول أن سؤال التجديد الجسور لمواجهة تناقضات الواقع هو سؤال المرحلة الراهنة؟

سؤال التجديد هو سؤال حيوي للغاية في هذه المرحلة، وينبغي أن يأخذ صفة السؤال الجاد المحفز نحو البحث والتأمل والنظر، وصفة السؤال المكتشف الذي نذهب إليه بأنفسنا ونفتش عنه لكونه يمثل حاجة وضرورة لنا، من أجل أن يكتسب هذا السؤال قوة المعنى، وصلابة المضمون، لمعرفة فلسفته وحكمته وماذا نريد منه، لا أن يكون مجرد سؤال عادي أو عابر يمر علينا ويمضي حاله كحال الأسئلة الأخرى من دون أن يفعل فعله في حاضرنا أثرا وتأثيرا وتخلقا.

كما أن شرط هذا السؤال أن يكون سؤالنا نحن الذي يخصنا ويعبر عن حاجتنا، ويستجيب لتطلعاتنا، ويتفاعل مع حاضرنا، ويتصل مستقبلنا، لا أن يكون سؤال غيرنا من الأمم والمجتمعات الأخرى الوافد علينا من الخارج، أو الذي نتعرف عليه من طريقهم وبواسطتهم فلا يكون فاعلا ومؤثرا في محيطنا، وبهذا المعنى يقتضي سؤال التجديد أن يصبح سؤالا فعالا.

ونحن بحاجة إلى سؤال التجديد خاصة في المجال الديني على مستوى الخطاب، ليكون خطابا متسما بخاصية التواصل في مواجهة القطيعة، وبخاصية الانفتاح في مواجهة الانغلاق، وبخاصية الاعتدال في مواجهة التشدد، وهكذا بخاصية التسامح في مواجهة الكراهية.

بين حكم القيمة وحكم الواقع كيف يمكننا اختبار معايير موضوعية لتوصيف العلاقات بين الطوائف، بما أن الطوائف جزء من واقع لا يمكن القفز عليه؟

في العلاقات بين الطوائف والمذاهب نحن بحاجة إلى العبور من حالة الانغلاق إلى حالة الانفتاح، ومن وضعية القطيعة إلى وضعية التواصل، ومن حالة التباعد إلى حالة التقارب، لإزالة كافة صور الجهل وتحقيق أعلى مستويات التعارف، عملا بمبدأ الأخوة الإسلامية، وتمسكا بسيرة الأمة الجامعة.

هذا هو السبيل لتجاوز ما يمكن تسميته بصدام الطوائف الذي لا يحدث إلا بتأثير وضعيات الانغلاق والقطيعة والتباعد، وقد وصلنا إلى وضع يفرض علينا وبشدة ارتفاع صوت الحكماء والإصغاء لهذا الصوت والالتفات إليه، والاستبشار به، ومثل هذا الصوت الحكيم موجود في ساحة جميع الطوائف والمذاهب.

الاشتباك بين الوعي التأويلي للدين والوعي الموضوعي للوطن يخلق تشويشاً مؤثراً في فهم البعض للإيمان من ناحية، وللمواطنة من ناحية ثانية، هل يمكن فك ذلك الاشتباك؟

هذه من الإشكاليات الضحلة من جهة، والمستغربة من جهة أخرى، وتحصل هذه الإشكالية نتيجة الضعف الفكري والثقافي، والضمور السياسي والقانوني، فالدين لا يمكن أن يتصادم مع الوطن أو يتعارض، كما لا يمكن للإيمان أن يتصادم مع المواطنة أو يتعارض، وليس هناك أبلغ من الحديث الشريف المروي «حب الوطن من الإيمان».

ونحن اليوم بحاجة لاستعادة مفهوم المواطنة، وتحويله إلى مفهوم مركزي ومرجعي في خطابنا الثقافي والديني، ليكون مفهوما مشعا وخلاقا وثريا بحقله الدلالي، بعد أن ظل مفهوما غائبا أو مغيبا ومتنازعا عليه في الخطاب الديني التقليدي.

في معنى الحوار تتداعى رهانات كثيرة حول الفكرة وسياقاتها، كيف نجعل من فكرة الحوار دالة معرفية فعالة للفهم والتواصل والتفاعل الإيجابي والحلول حيال الكثير من وجهات النظر المتعددة بطبيعتها؟

لعلنا بحاجة لتطوير فكرة الحوار بالطريقة التي طور فيها المفكر الألماني يورغن هابرماس فكرة التواصل، وبفضله اكتسبت هذه الفكرة ثراء معرفيا، وتراكما نظريا، وخبرة نقدية، وفتحت نقاشا واسعا ومعمقا، بقي حاضرا وممتدا زمانا ومكانا، ومتصلا بحقول معرفية عدة، كالفلسفة وعلم الاجتماع واللغة واللسانيات.

وفكرة الحوار هي في الأساس فكرة تواصلية، وتظهر فاعليتها في التواصل وفي الفعل التواصلي، وهي تعني كما تعني فكرة التواصل العبور من فلسفة الذات إلى فلسفة الآخر، فلا بد من الوصول إلى الآخر حتى يتحقق الحوار، بمعنى لا يكفى الدعوة إلى الحوار ولا يتحقق الحوار بهذه الدعوة الحسنة، وإنما لا بد من الوصول إلى الآخر ودفعه إلى التواصل، وليس من السهل تحقيق هذه الرغبة أو هذه المهمة، لكن ليس من الصعب كذلك النهوض بها، لكن الحوار والحوار الفعال تحديدا لا يتحقق بدونها.

وبهذا المعنى فإن فكرة التواصل تقدم خبرة معرفية وفلسفية ونقدية مهمة لا غنى عنها لتطوير فكرة الحوار، وبهذه الطريقة نخرج الحوار من الإصابة بوضعية الرتابة أو وضعية الجمود أو وضعية الانسداد، ولن يحصل هذا الأمر إلا بتدعيم فكرة الحوار بأسس معرفية وفلسفية ونقدية.

وفي مجالنا الوطني يمكن القول إن فكرة الحوار خطت خطوات متقدمة مع تجربة مركز الحوار الوطني، الذي بات يمثل بيت الخبرة السعودي والمرجع الوطني المتخصص بفكرة الحوار وبكل ما يتصل بها من معارف وتجارب وخبرات، والمفارقات واضحة في صورة هذه الفكرة ووضعيتها ما قبل مركز الحوار وما بعده.

ما أهمية أن نكون اليوم سعوديين برسم الهوية الوطنية الجامعة؟

ما يثير الدهشة في هذا الجانب، عدم الالتفات إلى قضية معرفية تتصل بمسألة بناء المفاهيم، ونعني بها غياب مفهوم حيوي عن المجال التداولي العام هو مفهوم الوطنية السعودية أو الجامعة السعودية أو الجماعة السعودية بهذا الصك الاصطلاحي والمفهومي، وبهذا الضبط البياني واللساني.

علما أن طبيعة المجتمع السعودي وبنيته وتركيبته البشرية والاجتماعية المتعددة والمتنوعة، تلح بشدة إلى طرح فكرة المواطنة، وإثارة الحديث والنقاش حول هذه الفكرة وبلا توقف، فكل الشروط والأرضيات والسياقات المحفزة لانبعاث هذه الفكرة موجودة، وهي قريبة من الأذهان، بل ونلمسها بطريقة حسية، مع ذلك ظلت هذه الفكرة ولفترة طويلة من الزمن، بعيدة عن المجال التداولي الفكري.

وفكرة المواطنة في كل مجتمع أنها تلامس المداخل التي تتصل بها، ففي مجتمعنا السعودي تلامس المواطنة المداخل الثلاثة المذكورة، المدخل القبلي بحكم وجود القبيلة الممتدة والمؤثرة في داخل بنية المجتمع السعودي، والمدخل المناطقي بحكم الجغرافيا الطبيعية والبشرية الواسعة والكبيرة، والمدخل المذهبي بحكم وجود أصحاب المذاهب الإسلامية المتعددة.

والحكمة من فكرة المواطنة، أنها تكوّن شعورا جمعيا موحدا عند جميع الأفراد داخل الوطن الواحد على تعدد قبائلهم ومناطقهم ومذاهبهم، شعورا يتخذ من الوطن إطارا وأساسا جامعا لهم، وبشكل يصبح الانتماء إلى الوطن هو الانتماء الرئيسي الذي يتقدم ويتغلب على جميع الانتماء الفرعية الأخرى.

إذا كانت فلسفات الهوية تخلق علاقة صراع ضروريةً بين الذات والموضوع، بحسب الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس، كيف يمكننا تفعيل علاقة ”التذات“ كمنهج سلمي لاستقطاب الخلاف في واقعنا المحلي؟

من طبيعة المجتمعات التعددية أنها تتكون من هويات فرعية متعددة ومن هوية جامعية واحدة، والمفترض أن لا تحل الهويات الفرعية مكان الهوية الجامعة ولا تتقدم عليها ولا تتفاضل، كما لا ينبغي للهوية الجامعة أن تلغي الهويات الفرعية وتتعامل معها بسياسات تهميشية أو إقصائية.

ومن الضروري أن تشعر الهويات الفرعية بالأمان والحماية من الهوية الجامعة، وبهذه الطريقة تسهم هذه الهويات الفرعية بتدعيم الهوية الجامعة وترسيخها وتمكينها، الوضع الذي يرتفع فيه الخلل، وتزال مسببات النزاع والصدام التي تنشأ عادة من السياسات الإلغائية والإقصائية.

علاقتنا بالعالم ورؤيتنا له كمسلمين تكاد تكون علاقة معطوبة أين الخلل؟

الخلل في جوهره العميق والبعيد يرجع إلى اختلال توازننا الحضاري مع العالم، فهناك مسافات حضارية بعيدة ما زالت تفصلنا عن العالم المتقدم، تجعلنا في وضع لا يسمح لنا بالتواصل الفعال مع المجتمع الإنساني، ولا بالتأثير في مجريات الأحداث العالمية، ولا بالاستفادة الحيوية من مكتسبات العالم ومنجزاته العظيمة والمدهشة.

والمسلمون اليوم يظهرون أمام العالم وكأن لا وزن لهم ولا تأثير ولا اعتبار، مع ما لديهم من تراث حضاري عظيم، ومع ما يمتلكونه من ثروات هائلة طبيعية وزراعية ومعدنية، وممرات مائية حيوية تربط بين أجزاء العالم وقاراته المختلفة، وغير ذلك من ثروات نعرفها نحن ويعرفها العالم، لكننا الأقل استفادة منها وهذه هي جوهر المفارقة الحضارية.

كل محاولة لتمثّيل التراث تستدعي علاقة منعكسة في الواقع، قد لا تكون تمثُّلاً لذلك التراث، بالضرورة، كيف نفهم التراث؟

للضبط المعرفي لا بد من القول ابتداء أن التراث هو ما له صفة المنجز الفكري الإنساني الوافد علينا من السابقين علماء وأدباء ومفكرين ومؤرخين ومفسرين، ومن حيث الطبيعة له خاصية النسبي المتغير الذي يقبل الصواب والخطأ على مستوى النظر، وموافقة الحق والواقع أو مخالفتهما على مستوى العمل، ومصدره الإنسان، ومجاله الفكر.

وبهذا المعنى فإن التراث يقبل الزيادة والإضافة، ويقبل النقد والنقض، وحتى الطرح والإسقاط، فلا نقبله بكليته وعموميته، وبدون فحص ونقاش، ولا نرفضه بكليته وعموميته كذلك بدون فحص ونقاش.

والحاجة إلى الفحص والنقاش لكي لا يكون الأخذ والرفض محكوما بمعايير الرغبات والعواطف، أو باقي المؤثرات والميولات الأخرى، وإنما ليكون الفحص والنقاش مستندا إلى أسس علمية ومنهجية تنظم العلاقة مع التراث.

وهذا يعني أن التراث ليست له قداسة النص قرآنا وسنة، هذه هي الإشكالية الملتبسة التي أعاقت طرائق التعامل مع التراث، وجعلت من التراث يتحول إلى سلطة فكرية وثقافية ودينية يكون من الصعوبة التعامل معه.

ونحن بحاجة لبلورة منظور معرفي ومنهجي على ضوئه تتحدد المقاصد والغايات من النظر إلى التراث، وهكذا الحاجات المعرفية والمنهجية التي ترتبط به، في زمنه الماضي، وبعلاقته بحياتنا المعاصرة، وبنظرتنا إلى المستقبل. وهذا هو المدخل السليم في التعامل مع التراث، لأن حقيقة المشكلة ليست في التراث، وإنما في طريقة فهمنا للتراث، وفي طريقة تعاملنا معه.

ولبلورة مثل هذا المنظور المعرفي لا بد من الاستفادة من منهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية، التي لا ينبغي أن ننكر لها خبراتها وتجاربها وتطبيقاتها، ومنجزاتها ومكتسباتها المعرفية، وأدواتها وطرائقها التحليلية والتوصيفية والنقدية، بحيث يمكن الجزم أن عدم الاستفادة من هذه المنهجيات تجعل أية محاولة في النظر والتعامل مع التراث منقوصة ومحدودة الجدوى والفاعلية.

البعض يطرح مفهوم القراءة المقاصدية للإسلام كضرورة لا فكاك منها لاستقطاب تناقضات المسلمين مع الحداثة، كيف تنظر إلى هذا الطرح؟

حصلت في الأزمنة الأخيرة تطورات معرفية ومنهجية مهمة في النظرية المقاصدية الإسلامية التي فتحت أفقا واسعا في طريقة النظر للقضايا والظواهر والمشكلات المعاصرة، وذلك بالاستناد إلى منهجية الكليات بدلا عن منهجية الجزئيات، واستنادا إلى منهجية الغايات بدلا عن منهجية الوسائل.

وكان من الضروري الاقتراب من هذه النظرية المقاصدية وتفعيلها والتواصل معها، لكونها تمثل مدخلا حيويا في طريقة التعاطي مع تحولات العصر، وتغيرات الزمن، وتجددات الحياة.

وعلى ضوء هذه النظرية يمكن التفريق بين روح الحداثة وواقع الحداثة، التفريق الذي استند إليه المفكر المغربي الدكتور طه عبدالرحمن في التأسيس لحداثة إسلامية كما شرحها في كتابه اللامع والموسوم بعنوان «روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية».

إلى جانب هذا الطرح، كانت لي نظرية أخرى تتحدد في اعتبار أن الاجتهاد في المجال الإسلامي هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي، وذلك لكون أن الحداثة تتكون من ثلاثة عناصر أساسية وثابتة، هي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها هي من مكونات مفهوم الاجتهاد بتفصيل لا يتسع له المقام هنا.

قلبت الثورة الرقمية ومنصات الإعلام الجديد في وسائل التواصل الاجتماعي المعادلة التقليدية للإعلام رأساً على عقب، وأسست لمعايير جديدة إلى أي مدى نذهب في القول: أن الإعلام الجديد هو بالضرورة نقيض للإعلام التقليدي؟

في نظر المفكرين والمؤرخين المعاصرين أن الثورة الرقمية مثلت عصرا جديدا في تاريخ التحولات الكبرى، وعدت الثورة الثالثة بعد الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر التي قامت على الفحم والبخار، وبعد الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر التي قامت على الكهرباء.

هذه الثورة غيرت منظورات الناس إلى العالم، وجعلت العالم حاضرا في حياة الناس وحولته إلى شيء محسوس يدركونه ويتعاملون معه بصورة يومية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي العابرة بين الأمم والمجتمعات، وبطريقة لم تحصل في جميع الأزمنة السابقة بل في التاريخ الإنساني برمته.

والمثير للدهشة أن هذه الثورة الرقمية بأدواتها المختلفة قد حفزت معظم الناس بجميع فئاتهم العمرية على التفاعل والتواصل معها، بما في ذلك الفئة العمرية الصغيرة التي ما زالت في مرحلة ما قبل المدرسة، إذ أصبحت الألواح الإلكترونية أدواتها المفضلة في اللعب وفي تمضية الوقت، الأمر الذي يعني أن هذه الثورة الرقمية لها تأثيرات متعاظمة تفوق وبلا قياس الإعلام القديم.

هناك استعصاء تاريخي في وجه التحولات بالمنطقة العربية، وصفه برنارد لويس بالاستثناء  على سبيل الذم  هل المخاض العسير الذي تعيشه المنطقة العربية هو صيرورة طبيعية؟

في منظور الغربيين مستشرقين ومؤرخين ومفكرين أن المنطقة العربية والإسلامية هي المنطقة الوحيدة التي قاومت التأثير الغربي الجارف، واختلفت استجابتها لهذا التأثير ولم تتمه معه وتركن له تبعية واستتباعا، بخلاف باقي المناطق التي تنتمي إلى الأمم والمجتمعات الأخرى الهندية والصينية والكورية وغيرها.

وقد ظلت هذه القضية موضع اهتمام الغربيين، ونالت قسطا من دراساتهم وأبحاثهم وفي هذا النطاق تحديدا جاءت دراستين لبرنارد لويس المنعوت بعميد دراسات الشرق الأوسط، الدراسة الأولى صدرت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحملت عنوان «أين الخطأ.. التأثير الغربي واستجابة المسلمين»، والدراسة الثانية صدرت بعد تلك الأحداث وجاءت بعنوان «أزمة الإسلام.. حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس».

لكن من منظور آخر نقدي وداخلي، يمكن القول إن تاريخ العالم العربي يمثل تاريخا متتابعا من الفرص الضائعة التي لم نحسن الاستفادة منها، والتعامل السليم معها، فقد مرت علينا الثورة الصناعية في أوروبا مع بداية القرن العشرين، وكانت حدثا كبيرا ومدويا في العالم، ولم نعمل للاستفادة منها. ومرت علينا كل تلك التحولات العلمية والتقنية التي شهدها الغرب واليابان من بعد تلك الثورة الصناعية، ولم تحدث تغيرا حقيقيا في تطوير حياتنا العلمية والتقنية.

وتمر علينا اليوم ثورة المعلومات وما سمي بانفجار المعرفة، والتطورات المذهلة في مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية، ونحن لا نملك إلا أن نظهر الخوف والشك والقلق، وإذا كان من المبرر أن نخاف، إلا أن هذا الموقف بالتأكيد ليس كافيا على الإطلاق، فهو موقف الضعيف الفاقد للثقة بالذات.

سلاح التكفير الأيديولوجي، الذي حل كمرجعية في تصنيف الناس، سواء داخل الطائفة الواحدة أو بين الطوائف، حول الاختلافات إلى خلافات ممزوجة بالعنف كيف يمكن تحييد هذا السلاح الأيديولوجي وتسكينه؟

من المؤسف جدا أن نشهد مثل هذه الاانقسامات والنزاعات الحادة والخطيرة بين أتباع مذاهب المسلمين وطوائفهم، ووصل الحال إلى حد العمل بسلاح التكفير، والتساهل في التكفير، وبات هناك من يكفر بالذنب، وهناك من يكفر المعين، إلى جانب من يكفر بلا ضوابط وبلا موانع، وإخراج الناس من الدين والملة، والتفتيش عن عقائدهم، وإعلان ضلالتهم.

وما يثير الدهشة في هذه الظاهرة من جهة الزمان، أنها اشتدت وتصاعدت مع القرن الجديد الحادي والعشرين، الذي كنا نتطلع فيه مع العالم في أن يكون قرنا مختلفا، واعدا بمزيد من النهوض والتقدم، وعلى أمل أن تتحسن فيه أحوالنا، وتتغير أوضاعنا، ونسلك فيه مسلكا يخرجنا من المآزق الصعبة التي وصلنا إليها، ويضعنا على طريق آخر نتلمس فيه فرص النهوض والتقدم، فهو القرن الذي استبقه العالم بالتحضير والاستعداد والاستشراف.

لهذا فإن العالم الإسلامي اليوم بحاجة لأن يطلق من داخله حركة تنوير واسعة وشاملة، تجابه وتحاصر ما تفشى في محيطه وبيئته من ظواهر التطرف والعنف والتكفير، ولكي يتمكن العالم الإسلامي من إطلاق مثل هذه الحركة التنويرية، فإنه بحاجة لأن يتضامن مع ذاته في مجابهة أيديولوجية التطرف والعنف والتكفير.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
S
[ ALG ]: 4 / 5 / 2018م - 3:05 م
ممتااااااااز
ماشاء الله