آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

حياةُ الآلة - موتُ الإنسان

المهندس هلال حسن الوحيد *

يأتي يومٌ تصل فيه الآلةُ لمرحلةٍ مدهشةٍ من الذكاءِ والدقةِ والأداء، لا يبقى عملٌ لا تستطيع أن تؤديه حتى الطربَ في الربيعِ لكنها لن تستطيع أن تعرفَ معنى الربيع ولماذا هي تطرب، عدا ذلك لا سقفَ إلا السماء. أعطاها الإنسانُ في قدرةِ الله كُلَّ ذاكَ الفكر والقدرة ولكن كلما أعطى الإنسانُ التعيسُ الآلةَ من شيءٍ سلبه من نفسه، دخلت بيوتَ الأغنياءِ وأكواخَ الفقراءِ يخضعونَ ويستسلمونَ لها دونَ مقاومة!

صارت الآلة تطبخ طعامنا في مقادير لا نستطيع قياسها، الآلة لا تقيس المقادير بالملعقةِ والجرام ولكن بأصغرَ من ذلك بكثير. جاء ذلك دون إحساسٍ بالرائحةِ التي تشمها الأمُّ وقبضةَ يدها التي يمسك بها الرحمانُ وتقول لمن سوف يأكلها ”لكم الهناءَ والرضا“، مرةً يزيد الملحُ قليلاً ومرةً ينقص ولا يهتم أحد، كلهم يأكلونَ الطعامَ دونَ تخمة!

سلبت الآلةُ القدرةَ والإبداعَ في التفكير دونها. ماذا لو غابت يوماً واحداً هل يستطيع المعماريون أن يبنوا بناءً واحداً بناهُ الرومانُ من المسارحِ والمدرجاتِ والأعمدة وتيجانها وأقواسَ النصرِ والمساكن التي زِيْنَتُهَا من الطوبِ أو الحجرِ أو الرخام. هل هناكَ إنسانٌ في أي حضارةٍ الآنَ يستطيع بناءَ ما بناهُ الفراعنةُ في مصرَ القديمةِ أو يزرعَ ما زرعوا دونَ الآلة؟

تفكر الآلةُ وتنفذ عملياتٍ معقدةٍ في أجزاءَ من الوقتِ لا يمكن أن يقيسها البشرُ بينما استسلمَ البشرُ لمقاييسِ الوقتِ البدائية ولم نعد نهتم بالثانيةِ أو الدقيقة أو الساعة وحتى اليوم والسنة والعمر كله. أضفنا قليلاً من الأحاسيسِ الإعتبارية للآلة فصارت تنقل لنا صورَ الدم والدمار. عودتنا تلك المشاهد، نأكلُ ونشرب دون أحاسيسٍ لما في الصورِ من آلامٍ ومآسي أو حتى بهجة!

درجة الكمال في الآلةِ والانحدار في الإنسانِ هل يعني أن الآلةَ سوف تكره وتحب وتبدأ الحروب، هي الآن من يقتل فيها! إحلال الآلة مكانَ الإنسانِ في الوظائف لا يعني أنه إذا جاءَ الشتاءُ ونامَ أطفالنا وانتزع الغطاء من فوق أجسادهم الصغيرة أن الآلةَ سوفَ تصحو مشاعرها ثم تنسل نحوَ غرفةِ الصغير وتقول ”اسم الله عليك“ وتلمس درجةَ حرارةَ جبينه وتقبله ثم تعيد الدثار، الطفلُ يدرك أن الآلةَ ليست أمه وسوف يبكي.

أشياءَ نصنعها ترتقي في الكمالِ الذي نفقده والأحاسيس التي ذهبت حتى أصابعنا صارت لا تحس بوهج النار! لا غنى عنها حتى في مخادعنَا ومعابدنَا، هل تفقدنا كل الأحاسيس ونعطيها الفرصةَ أن توقدَ النار في كانون وتفرك أيدينا إذا بردت أم لا؟ ربما في المدى المنظور يتحد الإنسانُ والآلة فلا يمكن الفصلُ بينهما أو تَحلَّ الآلةُ في الإنسانِ وتمتزجَ به كلياً؟

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
24 / 10 / 2018م - 5:32 م
قرأت يوماً مقالة لكاتب يمجد الآلة ويعتب على من يقفون على أطلال يد الإنسان ..
لاتخلو فكرتك من العاطفة تجاه ماسلبته منا الآلة من القدرة والجهد ..
تبقى الموازنة صعبة جداً في زمننا المتسارع ويبقى الإنسان جاهداً في إعادة منظومة حياته علها تستقيم للأجيال القادمة ..
كل الشكر أستاذ هلال ..
مستشار أعلى هندسة بترول