آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 1:13 م

شهر العافية: 11 - طغيان اللاشعور «ب»

محمد حسين آل هويدي *

بسم الله الرحمن الرحيم - سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ «2» َالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ «3»... - صدق الله العظيم - الأعلى.

لو سمعت صوتا عاليا فجأة فأنك ستقفز لا شعوريا وستخاف وستزداد ضربات قلبك وستحاول الاختباء؛ كل ذلك قبل أن تشعر أو تحلل الصوت أو معرفة مصدره. والسبب في ذلك وجود مكونات الحفظ على النفس بصورة لا إرادية يتحكم فيها اللاشعور. بعد أن تتمالك نفسك، قد تضحك من الموقف لأنه لم يكن يستدعي كل هذا الهلع، ولكن الخوف من اللاخطر أفضل بكثير من اللاخوف من الخطر. الأول لن يضر ولكن الثاني يعني الفناء. هذا موضوع يناقشه الكثير من العلماء وستجد مادته في الكثير من الكتب، مثل كتاب ”الإنسان“ ليوڨال هرري. وهذا أيضا ما يناقشه ليونارد ملوديناو في كتابه ”اللاشعور“.

يقول ملوديناو إن الانتباه اللاشعوري في أسلاف الإنسان تَطَوَّر قبل الشعوري منه، وذلك أفود للبقاء. يقول هرري، عندما تسمع صوتا آتيا من خلال الأعشاب فأنك ستقفز فوق أول شجرة تراها قبل أن تتحقق من المصدر. ويطلق على هذه الظاهرة «fly - or - fight» ”اهرب أو حارب“؛ طبعا، مع ترجيح الهرب أولا لأنه أقل كلفة. قد تلاحظ أن أول ما يفعله قطٌ الهربَ حينما يجفل وتراه لاحقا يراقب من بعيد. اللاشعور يجمع كل البيانات المتاحة من خلال حواسنا «حتى وإن كانت حدسية» ليحللها وبسرعة فائقة ليحمي الكائن من أي خطر محدق، وهذا ضروري جدا للبقاء.

يضرب ملوديناو مثالا بالشخص الأعمى الذي لا يفقد حدسه أو شعوره بالخطر وذلك لأن المحرك هو اللاشعور وليس البصر. مثال هذه الحالة عندما تعرض أحدهم إلى جلطة بالقرب من المكامن البصرية في الدماغ فأصبح المريض لا يرى، ولكن وبما أن عينه سليمة ولا تزال تستقبل الضوء، استطاع الدماغ اللاشعوري الاستفادة من هذه الأضواء.

التفاصيل التي يستلمها اللاشعور ليست تامة. الدماغ يستقبل الواقع على شكل بيانات، ومن ثم يحولها إلى معلومات يستفيد منها. هناك الكثير من البيانات يهملها الدماغ ولكن نحن لا نشعر بذلك لأنها بيانات لا تستحق التحليل أو بعيدة عن المتناول؛ مثلا، لاعب كرة القدم يعلم أنه في وسط ملعب ويعرف أن هناك من يشاهده ولكنه لا يهتم ولا يكترث لأنه لو فعل لفقد تركيزه. أيضا، هناك النقطة العمياء في العين والتي يفقد معها الشخص بعض البيانات، ولكن دماغنا تعود على ألا يكترث.

الكثير من خبايانا اللاشعورية تظهر على صفحات وجوهنا أو فلتات ألسنتنا وعلى حركات أجسادنا. المرء يستطيع الكذب بلسانه فقط، ولكن حركاته لا تكذب «إلا مع التدريب والذي قد لا ينجح في كثير من الأحيان وأكثر الظن يخفق حين الخوف»، لذلك يكون الحساب يومئذ من خلال حركات الجسد حتى وإن كذب اللسان: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ «24 - النور». في الغالب، المحققون وضباط الحدود جيدون في قراءة جسد الإنسان.

يقول ملوديناو إن لنبرة الصوت معنى لا شعوري وتعني الكثير؛ فمنها ما يعني السيطرة ومنها ما يعني التزاوج. الأَسَدُ الشرسُ مع كلِّ الأُسِدِ الذين استطاع هزيمتهم يتودد لأنثاه ويغير من حركات جسده ونبرات صوته. هناك اختلاف بين الإناث والذكور في استخدام الصوت والجسد وذلك على حسب الظروف لأن لكل منهما احتياجات مختلفة. الرجل يغير من صوته حينما يراود المرأة، والعكس أيضا صحيح. المرأة بطبعها تكره الرجل المزعج وتميل للصوت الهادئ والرخيم من الطرف الآخر؛ تفهموا أيها الرجال. المرأة تميل للصوت أكثر مما تميل للجسد، وهذه النظرية تم التوصل إليها من خلال ملاحظة السكان الأصليين لجزيرة تازمينيا في أستراليا إذ حظي الرجال بعدد أكبر من الأولاد بسبب أصواتهم.

نحن لا نتذكر كل شيء. دماغنا ليس آلة تصوير. تحدث بعض الفراغات فيقوم الدماغ بتعبئتها، وفي كثير من الأحيان تكون التعبئة غير دقيقة وتوهم الإنسان بصحتها «false memory». في نظري، الدماغ يحاول التخفيض من عملية التخزين فيلجأ إلى ضغطها «lossy compression»، وهذا يؤدي إلى ضياع بعض البيانات حين ادخارها، وهذا ما تفعله بعض الحواسب للاحتفاظ بالملفات الكبيرة. يبدو أن الدماغ لا يستفيد من ”فكرة نايكويست“ «Nyquist» الذي يضمن عدم خسارة أي نوع من البيانات. مهندسو الاتصالات يعرفون المقصود، ولا داعي أن توجع رأسك بهذه المصطلحات.

نكمل الموضوع لاحقا، إن شاء الله. دوموا بخير وصحة وعافية وذاكرة حافظة للسعادة والأفراح وماحية للأتراح.

1. Harari، Y. «2018». Sapiens: A Brief History of Humankind. New York، NY: Harper Perennial.

2. Harari، Y. «2018». Homo Deus: A Brief History of Tomorrow. New York، NY: Harper Perennial.

3. Mlodinow، L. «2012». Subliminal: How Your Unconscious Mind Rules Your Behavior. Vintage.
سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل