آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:44 م

حجاب الغفلة ليس حجاب الجهل

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

أفترضُ أن معظم القراء يعرفون فكرة «حجاب الغفلة» التي تحدَّث عنها جون راولز، في نظريته حول العدالة الاجتماعية.

سمعتُ هذه العبارة للمرة الأولى من خطيب، كان يُنكر على صاحبها دعوة الناس إلى الغفلة، بدلاً عن الوعي. وبقيَ هذا التصور عالقاً في ذهني سنوات، حتى شاركت في درس عن العدالة الاجتماعية، فسمعت الأستاذَ يتوسع في شرح مفهوم «حجاب الغفلة veil of ignorance». ولأن الذهن يحتله السابق إليه، كما يقول أستاذنا إبراهيم البليهي، فقد أنكرت نفسي امتداح الأستاذ الفكرة وصاحبها. كنت لا أزال مأخوذاً برأي الخطيب طيب الذكر. وبقيت لمدة طويلة - نسبياً - عاجزاً عن إدراك حقيقتها، بسبب التضارب الشديد بين ما سمعته أولاً وما سمعته تالياً.

بعد كثير من القراءات والمناقشات، اكتشفت أن كلام الخطيب الأول شكَّل حاجزاً حقيقياً، منعني من استيعاب المفهوم، مع أنه عنصر مهم في نظرية راولز، التي باتت اليوم مرجعاً أعلى للسياسات الدولية الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ولا سيما مع الإضافات التي قدمها زميله الفيلسوف المعروف امارتيا سن.

اكتشفت أيضاً أن الاستماع للخطباء والمتحدثين، لا يأتي إلا بالقليل جداً من المعرفة. من أراد العلم فسبيله القراءة فالتأمل ثم النقاش.

عودة إلى فكرة «حجاب الغفلة» فقد جاءت في سياق التذكير بما سبق أن سمَّاه الفلاسفة «الحالة الطبيعية»، وأميل إلى تسميتها «الحالة الفطرية»، أي حالة الإنسان قبل أن يتبرمجَ ويتأدلجَ وتتغيرَ طبيعته، بتأثير التربية وثقافة المحيط، وما في البيئة من حدود وقيود وصراعات.

فحوى هذه الفكرة أنه لو اجتمع عدد من الناس، كي يقتسموا ملكاً مشتركاً لهم، فكل منهم سيحاول - على الأرجح - أن يستأثر بحصة الأسد، ويترك للآخرين حصةَ العصفور. لكن لو أن هؤلاء تناسوا أو غفلوا للحظات، عن انتماءاتهم وتعصباتهم ومصالحهم، وفي تلك الأثناء أجروا القسمة، فإنهم - على الأرجح - سوف يلتزمون جانب الإنصاف في اقتسام الملك.

وتتصل الفكرة بمبدأ عميق الجذور، هو أصالة الخير في نفس الإنسان. أي كون الإنسان مفطوراً على الخير والإنصاف. أما الميل للاستئثار والتعصب وقهر الآخرين، فهو نتاج لتأثير البيئة الاجتماعية والتربية. إن «حجاب الغفلة» هو لحظة نسيان لواقع الحال، واسترجاع لحقيقة الإنسان الأولى، قبل أن يتلوثَ بأوساخ العالم وقيوده وألوانه الخادعة.

أكتبُ هذه السطور لتأكيد أن المساواة أصل أولي في العلاقة بين البشر، وهي تجسيد لفطرتنا وطبيعتنا، قبل أن تعلقَ بأنفسنا عوارض الحياة. نحن في حاجة إلى استذكار أن كلاً منا يساوي الآخر، في قيمته وقدره وكرامته وحقوقه. ليس فينا من هو أدنى من بقية الناس قيمةً أو قدراً. إن هذا حق لكل منا ولكل إنسان غيرنا. إقرارك لنفسك بأي حق، يؤدي تلقائياً إلى إقرار للآخرين بالحق نفسه وبالقدر نفسه، حتى لو غفلت عنه أو تجاهلته.

المساواة، مثل سائر حقوق الإنسان، مستويان: أولهما طبيعي سابق للقانون وحاكم عليه. لأنه جزء مما تتحقق به إنسانية الإنسان. أما النوع الآخر فهو المدني الذي يقيمه القانون والمجتمع السياسي الذي نعيش في ظله. نعلم أن الثاني أقوى؛ لأنه مدعوم بقوة المجتمع والدولة. لكن الأول أرفع شأناً؛ لأنه ثابت ومرتبط بالإنسان كإنسان، أي أنه سابق للجماعة والدين والقانون، وأعلى منها من حيث الترتيب.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.