آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 5:37 م

وهذا زمانٌ بنا يلعبُ

المهندس هلال حسن الوحيد *

قصةُ صاحبي هي حكايةُ ملايين البشر الذين عبروا الدنيا منذُ آدم ونوح. قصةٌ يحكيها من يقول: تَقَضَّى زمانٌ لعبنا بهِ وهذا زمانٌ بنا يلعبُ! حكاية الأبِ والأمِّ والابن والبنت، إذ لم يكن الفشل والنجاح يوماً قضيةَ شخصٍ واحد بل قضية أسرةٍ  ومجتمع ثم أوطان وأمم.

تزوج صاحبي في أوائلِ العشريناتِ من عمره، لم يكمل فصول الجامعة وحصل على فرصةِ عملٍ مع شركةٍ في الثمانينات. كابدَ في أوائلِ مشوار حياته ضيقَ العيش ولكن بعد كلِّ ضيقٍ فرج، هكذا هي الحياة. سنةٌ واحدة ثم جاءت الابنةُ الأولى ثم الثانيةُ ثم الثالثة، امتلأَ البيتُ بهجةً اكتملت بقدومِ الابن الأوحد بعد سنواتٍ من ولادةِ البنتِ الثالثة.

جاء الولد فرأى فيه والدهُ كلَّ أحلامه، الدراسة التي لم يكملها، والوظيفة الأرقى، ثم من يحمل اسمه وامتدادَ حياته. دقَّ جرسُ الخمسين من العمر وترك صاحبي العملَ باكراً راجياً الراحةَ بعد شقاءِ وتعبِ السنين. كان الولدُ في الرابعةَ عشرة من العمرِ حين جاء دلالُ السيارة والمصرف الخاص وقناني العطور واللباسِ الفاخر وشيء من المدرسة! اجتمع حوله رفقاءُ السوءِ ومعهم كلُّ خطايا سنين المراهقة، يبقى في الليلِ ساهراً خارجَ المنزل حتى الفجر وتبقى المدرسة في ذيلِ قائمةِ الاهتمامات. يصحو الأبُ كل ساعةٍ من ساعاتِ الليل يسأل أين ابني ومتى يأتي؟ في السادسة عشرة من العمر انتقل للمرحلة الثانوية في سيارةٍ جديدة وزادت المصاريفُ فهذه المرحلة لابد أن يأكلَ خارجَ المنزل كلَّ وجبة وعلب السجائر وحوادث السيارات، مطالب لا حصر لها!

في السنةِ الأخيرة من المرحلة الثانوية لم ينجح في مدرسة حكومية، كل يوم مشكلة فنقله لمدرسةٍ خاصة وتحمل أعبائها المادية. كان الأملُ أن تنتهي المشاكل لكنها على العكسِ ازدادت. سيارة جديدة مرة أخرى وسفر للشرقِ والغرب في إجازاتِ المدرسة رجاء أن يتعلمَ اللغة الإنجليزية وشيئاً من دروس الحياة وامتحانات القبول لا تنبئ أن دخولَ الجامعة ممكن مع نومِ النهار وسهر الليل وبداية خيباتِ المستقبل.

يقول صاحبي: ذهب كلُّ ما رجوته فيهِ ومنه. بقي الأملُ أن ينتهي في بدلةِ حارس أمنِ مدرسة أو مصرف ولا شيءَ أفضل من هذا. عندما تكون في العشرين لن تعرف انك تهدم جسمكَ وعقلك وأنكَ تنكر الجميل وتُحَمِّل أمكَ وأباك أثقالَ الخيبة والانكسار لكنك حتماً سوف تستيقظ في قادمِ الأيام عندما تكون أنتَ الكرةَ والزمانُ هو اللاعب، لاعبٌ ماهر لا يخسر إلاَّ مع القلةِ الذين يحترفونَ اللعب. هناك ثمةَ ظرفُ زمان اسمه المستقبل، يأتي بعد الماضي والحاضر، يجب أن تحميه وتصونه إما أن تَحمل فيه أنتَ الوردَ أو يجبركَ هو على وطءِ الجمر والشوك، مستقبلٌ يعتمد على القيمِ والعملِ الجاد وليس فيه مكانٌ لابنِ نوح الخاسر.

في الحياةِ ورودٌ إن أغرقناها بالماءِ ماتت وإن أعطيناها ما يكفيها أورقت ونمت، فإن كانت الورود تتصرف بنظامِ حب البقاء المودع فيها ولن تندم على موتِ ذاتها، لكن الإنسان لابدَّ أن يسقي من الحب ويأخذ من الحب ما لا يميت! في كلتا الحالتين ربما الذنبُ للساقي…
عجباً للزمانِ في حالتيهِ
وبلاء ذهبت منهُ إليهِ
ربَّ يوم بكيتُ منه فلمَّا
صرتُ في غيرهِ بكيتُ عليهِ
  الإمام علي

مستشار أعلى هندسة بترول