آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:54 ص

‎”أَفشُوا السَّلامَ بَينكم“..

وقفة لغوية ورؤية شرعية

الشيخ سمير آل ربح

في حديث شريف عن النبي ﷺ:

”أَفشُوا السَّلام بَينكم“ [1] .

في هذا النص الكريم ثلاثُ مفردات:

1 - ”أَفشُوا“: فَشا خَبَرُه يَفْشُو فُشُوًّا وفُشِيًّا: انتشر وذاعَ. [لسان العرب، ابن منظور، ف ش و]

قال الشاعر:

إِذَا ما ضَاقَ صَدرُكَ عَن حَديثٍ

فَأَفشتهُ الرِّجالُ فمَنْ تَلومُ؟

[شرح لامية العجم، الدميري، ص 123]

والفعل ”فَشَا - يَفْشُو“ من باب ”نَصَرَ - يَنصُرُ“، والأمر منه اُفْشُ ”بهمزة الوصل المضمومة“، بُني على حذف حرف العلة، وهو فعل لازم «يكتفي بفاعل ولا يحتاج إلى مفعول به»، وحين تدخل عليه الهمزة يصبح متعديًّا: فشى - أفشى؛ ولذا تُسمى هذه الهمزة همزة التعدية، والأمر منه: أَفْشِ ”بهمزة القطع“، وهو الموجود في النص أعلاه؛ فاحتاج الفعل إلى مفعول به وهو ”السَّلام“. أما الفاعل فهو ”واو الجماعة“، يخاطب النبي ﷺ فيه المسلمين بعمومهم، من دون استثناء، في زمان رسول الله وهم الذين توجه إليهم الخطاب لأول مرة، وما بعد زمانه؛ لما عُلِمَ بالضرورة من أن الخطابات الشرعية تشمل مَن كان في زمن الخطاب ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة، ف ”حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة“ [2] .

2 - السَّلام: سَلِمَ يَسلَمُ من باب فَعِل يَفْعَلُ، والمصدر سَلامةً وسَلامًا، وهو سَالم وسَليم، والمفعول مَسْلومٌ له، وهو لازم يتعدى بحرفي الجر ”اللام“ و”مِن“. تقول: سلمت له، ومنه، وأصل معنى السَّلام هو البراءة من الآفات والعيوب. قال ابن منظور: ”السَّلام والسَّلامة: البراءة“ [لسان العرب، ابن منظور، س لـ م]، وقد حظيت هذه المفردة بحضور عالٍ في القرآن الكريم، منها أن من أسماء الله الحسنى السَّلام؛ لسلامته من النقص والعيب والفناء. قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلام الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] والجنة دار السَّلام: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلام عِنْدَ رَبِّهِم [الأنعام: 126]، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام [يونس: 24]؛ لأنها دار السَّلامة الدائمة التي لا تنقطع ولا تفنى. عن الزَّجَّاج، والسَّلام هو التحية التي يُرحَّب بها: ﴿وَالسَّلام عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه: 47]، ويُسلِّم عيسى بن مريم على نفسه: ﴿وَالسَّلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 33].

3 - ”بينكم“: ظرف مكان، مفعول فيه، منصوب، والضمير ”الكاف“، في محل جر بالإضافة، و”الميم“ علامة الجمع.

وحاصل معنى الحديث الشريف: الأمر بنشر السَّلام والتحية بين المسلمين/ الناس، وهو من موجبات المحبة والألفة.

ونعرض هنا لرؤية شرعية لبعض مفردات ”السَّلام“ كما وردت في الروايات الشريفة وفتاوى الفقهاء:

1 - صيغة السلام الواردة في الروايات

هناك صيغ خاصة للسلام وردت في النصوص، منها ما هو المشهور بين المسلمين «السَّلام عليكم». عن الحسن بن المنذر قال: سمعت أبا عبد الله «عليه السَّلام» يقول: ”من قال: السَّلام عليكم فهي عشر حسنات، ومن قال: [ال‍] سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي عشرون حسنة، ومن قال: [ال‍] سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي ثلاثون حسنة“ [شرح أصول الكافي، المازندراني، 11/ 110]

ومنها كلمة ”مرحبا“. عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله «عليه السَّلام» قال: من قال لأخيه المؤمن: مرحبا كتب الله تعالى له مرحبا إلى يوم القيامة" - أصول الكافي، الكليني 2/ 206.

وعن النبي ﷺ بعث بسرية فلما رجعوا قال: مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس" [ميزان الحكمة، الريشهري 1 / 453]

أما صيغ التحية المتعارف بين الناس والتي تختلف من بلد إلى آخر، مثل ”هلا - كيف الحال؟“ ونحوها فإنه يتحقق به التحية والترحيب، لكن الثواب الخاص هو في صيغ السَّلام الواردة في النصوص الشرعية.

2 - استحباب البدء بالسَّلام والمبادرة إليه

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله «عليه السَّلام» قال: ”البادي بالسَّلام أولى بالله وبرسوله“ - شرح أصول الكافي، المازندراني، 11/ 110، أما الرد فهو واجب، ولو سلَّم على جماعة كفى في رد واحد منهم، ويستحب للباقي الرد. [العروة الوثقى، الطباطبائي، 1 / 511، م 30]

3 - استحباب الجهر بالسَّلام

بأن يُسمع الحاضرين، ولا يتمتم في نفسه، فإنه قد لا يتلقى ردًّا، وكذلك يستحب الجهر بالرد، وقد يجب إذا لم يصدق الرد إلا بالجهر. عن ابن القداح، عن أبي عبد الله «عليه السَّلام» قال: ”إذا سلَّم أحدُكم فليجهرْ بسلامه؛ لا يقول: سلَّمتُ فلم يردوا علي! ولعله يكون قد سلَّم ولم يسمعهم، فإذا ردَّ أحدكم فليجهرْ بردِّه ولا يقول المسلم: سلمت فلم يردوا علي!...“ - شرح أصول الكافي، المازندراني، 11/ 110

4 - حكم السَّلام على المصلِّي، وصيغة الرد

لا يجوز أن يبدأ المصلي بالسَّلام على غيره، وكذا سائر التحيات، مثل صبحك الله بالخير، أو مسَّاك الله بالخير، أو في أمان الله، ونحوها، وإذا ألقي السَّلام على المصلي يجب عليه الرد بمثل ما سُلِّم عليه؛ فإذا قيل له: سلام عليكم، أجاب: سلام عليكم، ولو لم يرد السَّلام أثم، وصحَّت صلاته. [العروة الوثقى، الطباطبائي، 1/ 508,509، م 15,16,17، من مسائل مبطلات الصلاة]

ويكره السَّلام على المصلي.

5 - السَّلام على الغرباء

المقصود من الغريب هو من ليس بينك وبينه معرفة، فيستحب إلقاء التحية عليه أيضًا، ولا يقتصر على أصحابه معارفه؛ ذلك أن من أسباب الألفة بين الناس هو السَّلام عليهم، ألَا ترى أنك لو التقيت في مكان ما، في دورة تدريبية «مثلًا» مع أناس لا تعرفهم تُصاب بوحشة وغربة، ما الذي يكسر هذه الحالة الجامدة؟ إنه الإقبال عليهم بوجه بشوش وبسلام شرعي؛ فقد روي عن النبي ﷺ أنه سئل: أي العمل خير؟

فأجاب ﷺ: ”تطعم الطعام، وتقرأ السَّلام على من عرفت ومن لم تعرف“ [أصول الكافي، الكليني، باب التسليم]

6 - السَّلام على من تختلف معهم في الرأي أو الاتجاه

يشمله عموم استحباب السَّلام، بل إذا كان في عدم السَّلام إهانة واحتقار لهم يحرم ذلك، لصدق العنوان المحرم، والأحكام تتبع العناوين.

7 - السَّلام على المتجاهرين بالمعاصي

إذا كان فيه تأييد لسلوكهم المنحرف فلا يجوز؛ لأن أدنى درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المستوى القلبي، وهو يعني إظهار النفور والكراهية من عملهم، وهو قد يتحقق بعدم السَّلام عليهم في بعض الحالات، كما أنه في حالات أخرى يكون السَّلام عليهم مقدمة لإصلاحهم والتأثير عليهم، وموضوع المسألة خارجي يختلف باختلاف المصاديق تبعًا لتشخيص المكلف.

8 - السَّلام على الأطفال

كان رسول الله ﷺ إذا مر على صِبية سلَّم عليهم، ومن هنا أفتى الفقهاء باستحباب السَّلام عليهم، بل قد عنوَّن الحرُّ العاملي في الوسائل بابًا بعنوان: استحباب التسليم على الصبيان. عن علي بن موسى الرضا، عن آبائه «عليهم السَّلام» قال: قال رسول الله ﷺ: ”خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفًا، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي“. [الوسائل، العاملي 12/ 62]

وفيه احترام لهم وتعزيز الثقة بهم، فهو خطوة تربوية هامة، وأما التعامل معه بأنه لا يفهم ولا يعقل أو ليس بجدير بإلقاء التحية عليه؛ فهو خطأ تربوي.

9 - السَّلام على المرأة

قال في العروة: يجوز سلام الأجنبي على الأجنبية وبالعكس على الأقوى، إذا لم هناك ريبة أو خوف فتنة؛ حيث إن صوت المرأة من حيث هو ليس عورة. [العروة الوثقى، الطباطبائي، 1/ 511,512، م 31، من مسائل مبطلات الصلاة]

10 - السَّلام في الصلاة

صيغته حسب فقه أهل البيت «عليهم السَّلام»: السَّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفيه سلام على رسول الله، وعلى أنفسنا، ويقصد بالسَّلام على عباد الله الصالحين الأنبياء والأئمة والحَفَظَة، وأما الصيغة الأخيرة فيقصد المصلي السَّلام على الإمام «والمأموم» في صلاة الجماعة، وعلى المَلَكَين. [العروة الوثقى، الطباطبائي، 1/ 495 - 497، فصل في التسليم، م 5، من مسائل مبطلات الصلاة]

11 - السَّلام على الموتى

لا يقتصر استحباب السَّلام على الأحياء، بل يستحب على الموتى أيضًا، فاذا دخل الإنسان مقبرة من مقابر المؤمنين يستحب له أن يسلم عليهم بالمأثور:

بسم الله الرحمن الرحيم السَّلام على أهل لا إله إلا الله، من أهل لا إله إلا الله، يا أهل لا إله إلا الله، بحق لا إله إلا الله كيف وجدتم قول لا إله إلا الله، من لا إله إلا الله، يا لا إله إلا الله، بحق لا إله إلا الله، اغفر لمن قال لا إله إلا الله، واحشرنا في زمرة من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله.

فقال علي «عليه السَّلام»: إني سمعت رسول الله ﷺ، يقول: من قرأ هذا الدعاء أعطاه الله سبحانه وتعالى ثواب خمسين سنة، وكفَّر عنه سيئات خمسين سنة ولأبويه أيضًا. [بحار الأنوار، المجلسي 99/ 301]

وأخيرًا، المأمول أن تشيع ثقافة السلام والتحية وتتحول سلوكًا نمارسه في حياتنا اليومية، اقتداءً بهدي الرسول الأكرم ﷺ؛ فكم سلام وتحية أبعدت شحناء وأزالت بغضاء وأورثت محبة وأحيت مودة.

[1]  جزء من حديث، وقد روي بروايات متعددة بين الفريقين، منها: ”والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلَا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم“.

كنز العمال، المتقي الهندي، حديث رقم 25241,9/ 113,114، ينظر: مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، حديث رقم 9675,8/ 362.

[2]  عن حريز عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله «عليه السَّلام» عن الحلال والحرام فقال: حلال محمد حلال أبدًا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدًا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجئ غيره، وقال: قال علي «عليه السَّلام»: ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة. الكافي، الكليني، 1/ 58.

الأصول من الكافي، الكليني أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1363 هـ ش.