آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

هل الموضوعية مستحيلة؟

بسام المسلمي *

لابد أنك تسمع - مثلي - في كل حوار أو نقاش أحد المتحاورين يطالب المتحاور الآخر بأن يكون موضوعياً. وربما تكون تلك الكلمة من أكثر الكلمات المتداولة في الحوارات والنقاشات والاجتماعات. وكما يخبرنا المتخصصون في صنع القرارات، فهي كل ما نحتاجه في صنع قراراتنا كي تكون حكيمة. ولكن، هل الموضوعية ممكنة في كل المواضيع وفي كل الأوقات والسياقات؟

مثل هذه الأسئلة يطرحها كتاب"

Objectivity: A Very Short Introduction"

”الموضوعية: مقدمة قصيرة جداً“

لمؤلفه البروفيسور في جامعة سيدني ستيفن غاوكروغر Stephen Gaukroger والذي يرى المؤلف فيه أنه لكي نكون موضوعيين، فإنه لابد لنا أن نعيد النظر في تصوراتنا وآرائنا التي نأخذها كمسلمات ونفحصها ونحاكمها لنقرر ما إذا كانت تصلح لأن تكون منطلقًا لأحكامنا وقراراتنا. ومن هنا، فإنه لا غنى عن أن تكون نظرياتنا وآراؤنا ومعتقداتنا مستخلَصة من دراسة وبحث عميقين ومبنية على أسس متينة من الأدلة القطعية اليقينية التي لا تحتمل الشك والظن. ولكن الكاتب يستدرك بعد ذلك ليسأل: هل هناك تعريف وتصور واحد للموضوعية أم أنها متغيرة بحسب الظروف والحالات؟ ليجيب على ذلك ببساطة بأنه ليس هناك تعريف محدد، وبالتالي، تصور واحد متفق عليه. وبرغم ذلك الاختلاف في تعريفها، فإن هناك مجالات يكون تحقيق الموضوعية فيها ممكناً وهدفاً معقولاً كما في الإحصاءات، ليس الأرقام الصماء لوحدها طبعاً، وكما في السلوك والأخلاق. ولكن الكاتب يقرر بعد ذلك بأن الأمور قد تكون نسبية حيناً ومطلقة في حين آخر. فما تراه أنت موضوعياً وأمراً متفقاً عليه عالمياً، قد يراه غيرك ذاتياً ومحلياً. وما تراه أنت ذاتياً وربما غير متفق عليه عالمياً، يراه غيرك موضوعياً ومطلقاً.

وإذا اتفقنا على ذلك، فإن، ”نحن أبناء الدليل، حيثما مالَ نميل.“ لابد وأن تقصد الدليل القطعي الصحيح الصريح المتفَق عليه الذي لا يتعارض مع العقل ومسلماته أبداً. إذن فلا سبيل غير الانطلاق من المسلَّمات المتفق عليها لمناقشة الأمور المختلَف عليها كي يكون الحوار مثمراً والنتيجة المتوخاه ممكنة والقرار المتَّخَذ حكيماً. أضف إلى ذلك، فإنه لا مناص من تحقيق أمور ثلاثة طرحها المؤلف كي نسير في الطريق المؤدي للموضوعية وهي: عدم التعصب والانغلاق لما نراه، وعدم الافتراض المسبق لنتيجة معينة، وأخيراً الدقة في الأدلة والتحقق من اتصالها بالموضوع مباشرة. وبطبيعة الحال، فإنك عندما تكون منحازاً وميالاً إلى رأي معين أو شخص ما أو قرار بذاته، ولكنك تتوخى العدل وتطبِّق المبادئ المؤدية إلى الموضوعية وكان ذلك الميل والانحياز لا يؤثر في دقة ونزاهة نتيجتك وحكمك، فإنك تبقى في دائرة الموضوعيّة. فحَكَم المباراة الذي يحب فريقًا ما أو يناصر منتخباً معيناً ليس بالضرورة أن لا يكون عادلاً في تحكيم مباريات ذلك المنتخب أو ذلك الفريق. وقد نادى القرآن بمثل هذا الأمر حينما قال، ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ“. وأما ”لي عنق النص“ ليتوافق مع رأيك أو وجهة نظرك المسبقة التي تحتاج إلى تفحص وتأمل ودراسة في كثير من الأحيان، فإن ذلك أبعد ما يكون عن الموضوعية. ولن تحتاج إلى أي جهد يذكر في أن تلحظ أن الموضوعية مفقودة في معظم الحوارات الدائرة في المجتمع والقرارات المتخذة في الاجتماعات. فالزوج لا يكل من تذكير الزوجة بحقوقه وتقصيرها في ذلك دون أن يتعرَّض أو يلمِّح حتى لحقوقها وتقصيره فيها. وحتى لو اعترف بتقصيره، فإنه يعترف بذلك نظرياً ويتصرف بخلاف ذلك في الواقع. وهذا ينسحب على الزوجات اللاتي يرون أن الزوج مقصر دائماً، وكأنهما نسيا أو تناسيا ما اتفقا عليه مسبقاً، ”وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ“. ومثل ذلك من انتهاك للموضوعية تجده أيضاً في حوار الأب مع ابنه والأخ مع اخته ورجل الدين مع صنوه والعالِم مع قرينه. فالجميع يبخس الناس أشياءهم ولا ينصفهم من نفسه.

فالموضوعية في البحث إذن هي أن لا تحيد عن الطريق الذي يقودك إليه الدليل العلمي المجرد الثابت القاطع المتفق والمتسالًم عليه، لتكون مثل مؤشر البوصلة الذي لا يتحول عن الاتجاه إلى الشمال إبداً. ولما كانت الموضوعية أمراً ليس من السهولة تحصيله والتخلص من الذاتية أمراً يصعب التنصل والتخلص منه، تطلبت مثل تلك الأمور التي تنشد الموضوعية عدة حكام ومتحاورين وقضاة ليس لهم مصلحة في صنع القرار وإصدار الأحكام. فتجد دائماً أن بعض الممتحنين في الدراسات العلمية العليا مثلاً هم من جامعات أخرى غير تلك التي ستقدَّم لها تلك الرسالة العلمية. وكذلك، فإنك قلما تجد لجنة ممتحنين تشكلت من أقل من ثلاثة ممتحنين. بل إنك ترى بعض الناس يتعمد استشارة ومناقشة أناس ذوي آراء مضادة وربما متعارضة مع آرائه وتوجهاته ومنطلقاته الفكرية ثم يحاول الدفاع والانتصار لتلك الآراء ليحدد مدى صمودها أمام ذلك النقد الحاد الذي ينهال عليه منهم. لأنه بذلك سيضمن أن أولئك الناس لن يجاملونه ولن يحابونه كما سيفعل أصحابه المقربون في كثير من الحالات والمواقف مما يؤثر سلباً في سلامة الرأي أوالقرار.

ولعلي لا أكون مبالغاً إذا ادعيت بأنه سيكون محصولاً جيداً وغلة وفيرة، بعد قراءتنا للكتاب، أن ندرك بأن الموضوعية ليست متاحة في كل حين. وكذلك، فإنها تحتاج لتضافر جهود عدة أطراف وأفراد حتى نتحصل عليها أو نقترب منها بعد التسليم بأنه لا يمتلكها أحد بعينه وأن جميع الأطراف يدركون ذلك ويعتقدون به. ثم، وفي الختام، أن نجعلها غايتنا إن لم نستطع جعلها وسيلتنا وذلك بأن لا نكف ولا نتوانى في البحث عنها والسير إليها ومعانقتها.