آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

الاعتراض على الحركة الاحتجاجية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

إذا كانت الحركة الاحتجاجية التي انطلقت عام 2011، مفاجئة كاملة لكل المتابعين للمشهد السياسي العربي، فإن الحركة الاحتجاجية الجديدة التي انطلقت منذ بداية هذا العام، لم تكن مفاجئة البتة؛ بل إن الأسئلة كانت تدور دائماً حول أسباب تأخر انطلاقتها.

بدأت الموجة الثانية للحركة الاحتجاجية في الجزائر، في صيغة اعتراض على الإعلان عن ترشح عبد العزيز بوتفليقة، لدورة رئاسية جديدة، بعد تربعه على السلطة لعقدين كاملين. وقد حمل الاعتراض عناوين عديدة، شملت التشكيك في اللياقة الصحية لبوتفليقة على إدارة البلاد. واعتبرت الإصرار على ترشيحه، بأنه إصرار من المحيطين به على الاستمرار في إدارة البلاد، ما أدى إلى التغول والفساد وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وتراجع اهتمام الحكومة بالمصالح الأساسية للناس.

وإذا كان السؤال مشروعاً عن أسباب تأخر إطلاق الحركة الاحتجاجية في الجزائر، فإنه يظل أكثر مشروعية حين يتعلق الأمر بالسودان. فهذا البلد الذي يعتبر بحق من أكثر البلدان العربية غنى بخصوبة أرضه، وثروته المائية، بما يجعل منه سلة غذاء للوطن العربي بأسره، هو من أكثر البلدان العربية فقراً. والسودان إلى جانب ذلك، من أكثر البلدان العربية عراقة في النشاط السياسي، حيث لم تتمكن أنظمة الفساد والاستبداد على الرغم من محاولاتها الدؤوبة، وضراوة قمعها، من تجريف الحركة السياسية. وقد شهدت البلاد ثلاث موجات من العمل البرلماني وُئِدتْ جميعها بانقلابات عسكرية.

والأكثر من ذلك، أن حكم البشير لم يتسبب فقط في إفقار البلاد وتجويع الشعب؛ بل أسهم في خلق العوامل المهددة لوحدتها. وقد أدت سياسات الحكم إلى انفصال الجزء الجنوبي من البلاد عن المركز الأم، وبروز احتمالات انفصال الجزء الغربي المعروف بإقليم دارفور عن البلاد.

أما ما يجري في لبنان والعراق، فقد تناولناه بشيء من التفصيل في حديث سابق، ولن نعود لذلك مرة أخرى، لكن هذه المناقشة تقتضي التذكير بأن الفساد والاستبداد والاستخفاف بحقوق الناس، ليست وحدها معضلة البلدين؛ بل إن القسمة الطائفية هي أكبر المعضلات، حيث يغيب الانتماء للوطن، على حساب الانتماء للمكونات الصغيرة الأخرى.

وطبيعي أن للتخلف والاستبداد والقهر، والطائفية حراساً لا يستهان بهم، هؤلاء الحراس هم الذين استفادوا من التشكيلات الاجتماعية والسياسية السائدة، وهم وحدهم الحريصون على استمرار الوضع القائم على ما هو عليه.

وهؤلاء الحراس هم أضعف بكثير، في البلدان التي لا تستمد فيها السلطة مشروعيتها من قيم المحاصصة، ولذلك لا نرى اصطفافاً شعبياً في السودان والجزائر مع النظامين السابقين، على الرغم من الاعتراف هنا بسطوة الدولة العميقة، ومحاولات إعاقتها للانتقال السياسي الذي تنشده الحركة الاحتجاجية، في حين أننا نرى اصطفافاً سياسياً واضحاً له حراسه الأقوياء في لبنان والعراق، في مواجهة الحركة الاحتجاجية. هذا الاصطفاف يتمسك بقوة باستمرار العملية السياسية، ويقع مناصروه في تناقض واضح، بين إعلانهم الاعتراض على الفساد من جهة، والتمسك بالنظام القائم من جهة أخرى؛ بمعنى آخر يعلن هؤلاء رفضهم للفساد لكنهم يتمسكون ضمناً بالفاسدين.

ضمن جدل الاعتراض على الحركة الاحتجاجية، هو القول بالتدخل الأجنبي، وتحديداً الأمريكي الصهيوني في الحركة الاحتجاجية، وتوجيهها بما يخدم أجنداتها المشبوهة، وتكريس الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وهو قول لا نعترض عليه ولا نرفضه؛ ذلك لأنه من الطبيعي أن تستثمر القوى الدولية أي حدث سياسي، وتوجهه بما يخدم مصالحها وأجنداتها. وأي تصور آخر، بخلاف ذلك هو تعبير عن أمية وغباء في فهم السياسة.

لكن الموضوع ليس تقرير ما إذا كانت أمريكا تدخلت أم لم تتدخل في مسار الحركة الاحتجاجية، وإنما جوهر السؤال، هو: لماذا لم ينخرط المعترضون قولاً على الفساد في الحراك الشعبي الدائر في لبنان والعراق، ليقطعوا الطريق من خلال انخراطهم على أي محاولة لتوجيه الحراك الشعبي وجهة غير وطنية؟! وهل يستقيم القول بمحاربة الفساد وقمع الشعب الذي يتظاهر مطالباً بالقضاء عليه؟

والسؤال الأكثر جوهرية وأهمية: هل يسعى الأمريكيون في العراق لتقويض العملية السياسية التي هندسوا لها؟

إذا كان الأمر كذلك، فإن كل وطني عراقي شريف من المتظاهرين في مدن العراق وبلداته وأريافه، سيرفع القبعة لهم، لكننا لا نحسب الأمر كما يدعونه. فالحكام الذين يتربعون على السلطة في العراق جاءت أغلبيتهم على ظهور دبابات المحتل، وهم يدينون له بما هم عليه الآن من نفوذ وسلطة ومال. وإذن، فإن وراء الأكمة ما وراءها، والموضوع أعقد من ذلك بكثير، والسجال بحاجة إلى تحليل أعمق في حديث آخر.