آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

أزمات عربية مستعصية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

حيثما يممنا النظر هذه الأيام في خارطة الوطن العربي الكبير، من المشرق إلى المغرب، نرى حالة من التضعضع والتفسخ مع غياب واضح لأي بصيص أمل في الخروج من نفق الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة. وللأسف، فإن كثيراً من هذه الأزمات هو من صنع واقعنا الاجتماعي المتخلف، واقتصادنا العاجز عن مقابلة الاستحقاقات الأساسية للناس. وإرهاصات التمرد السلمي على هذا الواقع، التي بدأت موجتها الجديدة قبل عام في عدد من الأقطار العربية، لا تزال تقابل باستخقاف وغباء النخب السياسية، وبشكل خاص في لبنان والعراق.

في ليبيا التي لم يجد أهلها سبيلاً للتخلص من رئيسها القذافي سوى بالتفنن في تدمير وحدتها وسلمها الاجتماعي وتسليمها جثة هامدة للمتطرفين، يُعوِّل الشعب على مؤتمر برلين الذي يعقد برعاية الأوروبيين في التوصل إلى حل سياسي يضمن التسوية بين المتصارعين المدعومين من قبل أطراف دولية وإقليمية بعضها بات شغله الشاغل، إعادة الحياة لعهد «العثمنة». والأحداث التي تجري في ليبيا وحولها، وكما هو الحال في بقية البلدان العربية، تدار للأسف من قبل لاعبين من خارج المكان.

لن نتحدث عما جرى في السودان وعن محاولات اغتيال المعارضين في تونس، ولن يكون هناك متسع في هذه القراءة السريعة، لتناول أوضاع أشقائنا في إدلب، وأطماع السلطان العثماني في استمرار الهيمنة عليها. ولن نتعرض للدماء الغزيرة التي تسال في اليمن نتيجة أطماع إقليمية ودولية، لا تجد مخرجاً من الأزمة الراهنة في هذا البلد العريق، سوى بتمزيقه و«لبننته»، وفرض نظم المحاصصة والقسمة فوق ترابه.

نعم كثير من الأزمات التي تمر بها البلدان العربية، ساهمنا جميعاً حكومات وشعوب في خلقها إلا أن اللاعبين الحقيقيين فوق رقعة الشطرنج، هم صناع القرار الكبار، فهم وحدهم من يستطيعون تحريك البيادق، وتوجيهها بما يخدم مصالحهم وأجنداتهم. وقد بلغ العجز العربي حد انتظار المعجزة، التي لن تحدث إلا بالاتفاق بين هؤلاء اللاعبين.

في العراق حذرنا قبل أسبوعين، عند تناولنا لحدث اغتيال سليماني والمهندس، من أن ثورة العراقيين ضد الفساد ونظام المحاصصة ستكون الضحية الحقيقية، لعملية الاغتيال. وقد جاءت الأحداث لتؤكد ما أشرنا إليه في ذلك الحديث.

فقد بدأت بعد تلك العملية مباشرة، حملة واسعة وشرسة ضد المتظاهرين السلميين، الذين يطالبون بتكنيس تبعات الاحتلال الأمريكي لبلادهم. وخلال الأسبوعين المنصرمين سالت دماء كثيرة، ضحاياها من المواطنين الأبرياء، شملت إعلاميين جرمهم الوحيد هو عملهم على كشف ما يجري من جرائم بشعة تمارسها الميليشيات الطائفية بحق العراقيين المطالبين بحقوقهم.

فالميليشيات الطائفية التي وعدت بالانتقام والثأر ممن نفذ اغتيال سليماني والمهندس، مارست انتقامها وثأرها من العراقيين المسالمين. وتشير التقارير إلى أن تعداد الجرحى وشهداء الثورة السلمية قد بلغ الآلاف. وثورة كتبت فصولها بالدم، والتضحية والإصرار لن يكون بمقدور أحد القضاء عليها.

لا يطلب المتظاهرون السلميون سلطة ولا جاهاً، فكل ما يكافحون من أجله هو استقلال بلادهم وحقهم في تقرير مستقبلها، وإلغاء العملية السياسية التي دشنها السفير الأمريكي بريمرز، والتي أسست بأركان عدة تضمن استمرار احتكار نظم المحاصصة والفساد للسلطة، إلى أجل غير محدود.

لقد كان العمود الفقري لتلك العملية، هو تغييب مفهوم المواطنة، والاستناد إلى الانتماء للطائفية، بدلاً من الانتماء للبلاد. وبناء على ذلك، تأسست الأحزاب السياسية، وخاضت الانتخابات النيابية. ومن هذه العملية انبثقت مجمل هياكل عراق ما بعد الاحتلال. وكل ادعاء غير ذلك هو أكذوبة تدحضها الوقائع. فالجيش وقوى الأمن هي نتاج هذا التشكيل الطائفي المقيت، وما يقال عنه القضاء المستقل يستمد مشروعيته من موافقة البرلمان الطائفي على تشكيله، وعلى لوائحه وقراراه. وحتى ميزانية البلاد ينبغي دستورياً أن تُقر من قبل البرلمان، المؤسس بموجب القسمة الطائفية.

والذين قبلوا العملية السياسية حتى من خارج الأحزاب الطائفية دخلوا البرلمان، ليس على أساس انتمائهم السياسي؛ بل بموجب انتمائهم الطائفي. ولذلك، فإن تعافي العراق، وخروجه من أزمته الراهنة، هو رهن بإلغاء العملية السياسية بشكل شامل، وإعادة بناء الحركة السياسية العراقية، كما هو ديدنها منذ الاستقلال حتى الاحتلال الأمريكي عام 2003 على أسس وطنية، واستعادة الانتماء العربي لهذا البلد العريق، واستناداً إلى الإيمان بحق العراقيين في الاستقلال والوحدة والحرية وتقرير المصير. ومن هنا تتأتى مشروعية الثورة العراقية الباسلة، الهادفة إلى قيام دولة مدنية تستند إلى العدالة واحترام سيادة القانون.