آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

حين يتواجه العلم والفكر

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

لحقب طويلة في التاريخ الإنساني، تلازم العلم والفكر، بكل تجلياته، وتنوعه، بحيث كان من المتعذر الفصل بشكل حاسم بينهما. فبدايات نشوء الحضارات، ونشوء المدن لم تعرف التخصص.

ففي التاريخ القديم، وتحديداً مع بزوغ الحضارات الإنسانية، ولاحقاً بروز الفلسفة الإغريقية، كان الفيلسوف هو الحكيم، وهو العالم، والطبيب. فعلى سبيل المثال: وصف الفيلسوف الإغريقي أرسطو، بالمعلم، والفيلسوف، والحكيم، في آن معاً.

وفي الحضارة العربية الإسلامية، حين يذكر ابن سينا يشار إليه باعتباره فيلسوفاً وعالماً في الطب. والحال هذا ينسحب على كثير من العلماء العرب، كالرازي، وابن النفيس، والكندي، والفارابي، وابن الهيثم، فهم فلاسفة وعلماء في آن معاً. لكن التطور العلمي الذي ارتبط بالثورة الصناعية فرض تغيرات كبرى، حتمت إعادة النظر في كثير من المصطلحات، والمفاهيم. وبات الفصل بين المصطلحات أمراً جوهرياً وملحّاً.

لكن التمييز بين هذه المصطلحات، في البداية، جرى بصيغة التوازي، وأحياناً التكافؤ بينها، وليس بصيغة التعارض، والتضاد. وكان الفكر، كما الفلسفة، مرتبطاً ارتباطا وثيقاً بالعلم، وكان في كثير من الحالات نتاجاً له، على أن هذا الأمر لم يستمر إلى ما لا نهاية. فالتطور العلمي، وشيوع مبدأ التخصص، وتعدده، وتنوعه جعل التمييز بين مصطلحات العلم والفلسفة والحكمة وبين مختلف العلوم، وضع العلم في مواجهة غير متكافئة تصل حد التضاد مع الفكر، والفلسفة.

فقد طرحت التطورات العلمية الهائلة والمتلاحقة التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، في مجالات الاتصالات والكمبيوتر والوراثة، أسئلة مهمة ومشروعة عن العلاقة بين العلوم الطبيعية، والفكر، والفنون، والآداب، والفلسفة.. ومنذ بداية التسعينات أصبح الحديث مألوفاً عن نهاية التاريخ، وسقوط الأيديولوجيا، وتراجع الفكر والفلسفة، وسيادة نمط جديد من العلاقات البراجماتية.

لقد أصبح التطور العلمي سريعاً، ومتلاحقاً، بحيث أصبح من الصعب على الفيلسوف متابعة حركته، وصياغة نظرية مستمدة من تلك التطورات. ولا يكاد الفيلسوف ينهي مهمته حتى يواجه بتطورات علمية جديدة تنسف ما توصل إليه.. وكانت تلك بداية الانفصام، والتقهقر. فالفلسفة التي خرجت من رحم العلم وجدت نفسها تعيش أزمة بسبب من نموه، وتسارع حركته، وعدم قدرتها على اللحاق بتلك الحركة. وحين تغيب النظرة الفلسفية إلى الكون والحياة، يتراجع دور الفكر.

فكما كانت الفلسفة ضحية للتطور العلمي، فإن الفكر أيضاً بات من ضحايا هذا التطور. لقد تراجعت نسبة القراءة على مستوى العالم، بشكل كبير. وفي السنوات الأخيرة، أغلقت عشرات الصحف الكبرى في العالم أبوابها، وتراجع دور الكتاب. ومعه تراجعت الأفكار، والآداب، والفنون، واستعيض عن ذلك بمواقع التواصل الاجتماعي، والبوابات الإلكترونية. وتضاءلت قراءة الكتب والمقالات الطويلة، واستبدلت بالفقرات القصيرة، التي تعج بها صفحات «الفيس بوك» و«التويتر». وحتى حين ضمت الهواتف الذكية، مكتبات محمولة، لم يرق استخدامها لدى الناس، إلى ما كان معتاداً في السابق، من استخدام الكتاب، والصحيفة.

وبات الإدمان على الهاتف المحمول سمة العصر، في العالم بأسره، لا تستثني أحداً. ولا يتميز فيها مجتمع من المجتمعات الإنسانية عن مجتمع آخر. ويوضح تقرير بريطاني أعدته «نيوز ويك»، أن نسبة من يشغلون هاتفهم المحمول، بعد استيقاظهم من النوم مباشرة، بلغت 95% وأن 5% فقط يؤجلون ذلك إلى وقت تناولهم طعام الإفطار. والحال هذا شائع، وإن بنسب مختلفة، ولكنها متقاربة في جميع البلدان.

وفي ظل واقع كهذا، يصعب تصور تطور أي مشروع فكري. فالكاتب لا يكتب لنفسه، بل يكتب لتُقرأ أفكاره، وحين يتلاشى عدد القراء، في مجتمع ما، تتلاشى الأفكار، فكيف يكون الحال إذا تراجع دور القراءة والاهتمام بالأفكار على مستوى العالم بأسره؟

وكان البحث عن الحقيقة، منذ الأزل هو الغاية الإنسانية المطلقة.. والحقيقة كما تعلمنا الاكتشافات والاختراعات نسبية دائماً، وأبداً. والوصول لها يعني فلسفياً، أننا بلغنا خاتمة المطاف، إذ ليس بعد الوصول سوى السكون.. وهو ما لا يمكن القبول به. ذلك أنه على الرغم من كل ما وصلنا إليه، وأمكننا تحقيقه في هذا القرن، فإننا نبدو كأننا في بداية الطريق. وهنا تكمن المعادلة الصعبة.. فالمزيد من التقدم والاكتشافات العملية يقابله تراجع في كل ما يلامس الفكر والقلب، بحيث تصبح النفس جامدة متبلدة.

والأهم هو ما أحدثته هذه التحولات من تغيرات في السلوك الإنساني، وأنماط العيش، والثقافات، والفولكلور، ومختلف أنواع الفنون. إن ذلك يقتضي الوقوف طويلاً، عند هذه الظواهر، ومعالجة ما تتركه من خواء على الروح، والقلب.