آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 4:55 م

يوميات العزل الصحي «7»

أثير السادة *

مر الأمس على المدينة المعزولة ولا شيء فيه من ضجيج سوقها الشعبي، غابت وجوه الباعة والمتسوقين، وغابت صورة المكان الأثيرة، حيث الحبل الممتد إلى الذاكرة العميقة، الطرقات التي يرتادها الناس تغيرت، والخطوات التي تركت آثارها في متسع السوق تخطفها القلق هذه المرة، لحظات صمت تلف المكان، تخفي من ورائها الخوف من غدر العدو اللامرئي.

ما عاد المكان يتنفس كما كان من قبل، أو هكذا يبدو، تتقاذف الناس رسائل التحذير واحدة بعد أخرى، وتتعقبها أخبار الإصابات الجديدة، فيستعيدون قلقهم من أن يستيطل زمن العزل، ويصبح سجناً لا سبيل للخروج منه، عندئد لن يكون بوسعهم أن يستدركوا أو يتداركوا أخطاء كان بالإمكان اجتنابها.. تتماوج بهم الأفكار والأخبار، فيقرر البعض البقاء في حدود البيت، ويقرر البعض الآخر التريث حتى يستشعر اقتراب الخطر.

سيكمل العزل الصحي أسبوعه الأول، ولا مؤشر على استعادة الحياة الطبيعية في القريب، أسبوع ثقيل على الوطن بأكمله، بل على العالم كله وهو يشهد اتساع رقعة المرض، وسرعة انتشاره بين القارات، أسبوع طرق فيه المرض أبواب مدن أخرى، وفتح الطريق لإجراءات أكثر تشدداً وصرامة، من قبيل غلق المطارات، وتعليق الدراسة، حتى لا تضيع في هذا الوطن مفاتيح الحل، ويصبح الخروج من هذه المحنة مكلفاً وعصياً.

للعزلة دروسها التي تؤنسنا في وحشة الأيام، وفي مطلعها الصبر والتضحية، الصبر على فقدان حرية التنقل، والتغيب عن مواقع العمل، ففي حضرة المرض كان على هذا الإقليم أن يضحي بحريته من أجل سلامة الوطن، يصبح للعزلة معنى وقيمة وشرفاً وفضيلة حين يتنازل الناس عن أشيائهم ورغباتهم لغاية أنبل وأسمى، هم ضحايا المرض وليسوا المسئولين عنه، هم السياج الآخر الذي يراد منه منع انتشار المرض في مقابل السياج الأمني الذي يضمن الانضباط والالتزام في تطبيق العزل الصحي.

الصبر والتضحية عنوانان لهذا الفصل من المواجهة مع الوباء، صبر رجال الأمن الذين يتناولون وجباتهم على الرصيف عند المخارج، وصبر المرابطين في مواقع العمل وهم يضحون بالجهد والوقت لأجل تغطية غياب زملائهم، وصبر العاملين على تغدية الأسواق بالسلع والبضائع في زحام المخارج، والوافد الذي اضطر لإلغاء إجازته، والشاب الذي تنازل عن مراسيم الفرح في ليلة عرسه، وقبل كل هؤلاء وبعدهم من سهروا على حراسة أرواح الناس في المشافي، وفرشوا لهم الطريق بالأمل.

بهذه الروح المضحية والصابرة، يمكن أن تشكل تجربة العزل ثراءً معنوياً لإنسان هذه الأرض، يخسر ما يخسر من أموال وراحة بال، ويكسب الكثير من المعاني النبيلة، من أصغر طفل أدرك حجم الخطر فاحتاط له، إلى أكبر رجل مارس حضوره في العزل الصحي بكثير من المسئولية، لنخبر الأجيال القادمة بأن فيروساً شرساً مر من هنا، ولم ينل من عزيمة الناس، ولا تكاتفهم، بل جعلهم يتحصنون بروح الجماعة، ويعبرون جسر الخوف بكثير من الثقة، في لحظات تخلى الناس فيها حتى عن المصافحة واللقاء، من أجل أن يكتب للحياة عمر أطول في هذه الأرض.