آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

التجديد في مشروع النهضة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

أثار حديثنا السابق، «نحو مراجعة نقدية للمشروع النهضوي العربي»، تساؤلات لدى البعض، أتت في صيغ استنكارية. تحلقت جميعاً حول سؤال واحد: ما الذي تريد تجديده في هذا المشروع؟ وبغض النظر عن الصيغ التي وردت فيها تلك الأسئلة فإنها تظل مشروعة. ويمكن تلمس العذر لمن طرحوها في أنهم لم يتابعوا ما سبق أن تناولناه في هذا السياق من مراجعة نقدية للفكر القومي العربي، نشرت في صحف ومواقع عدة، من بينها هذه الصحيفة.

المشروع النهضوي العربي هو حصيلة تراكم نوعي للفكر القومي العربي، وتوسل جاد من أجل تطويره، وهو صياغة، من وجهة نظر صانعيه، للمستقبل العربي. وقد جاء ليتوج نتاج عقود عدة من المناقشات التي دعا إليها مركز دراسات الوحدة العربية، وشاركت فيها نخب فكرية من مختلف الاتجاهات السياسية السائدة، قومية ويسارية، وإسلامية، ومستقلة.

لم يكن الهدف من صياغة المشروع النهضوي تقديم مراجعة نقدية للفكر القومي، في محطاته الرئيسية، منذ بداياته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل رسم خطوط عامة لما ينبغي أن يكون عليه مستقبل العرب، وبتوافق من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية التي شاركت في التمهيد لولادة المشروع.

لكن المشروع في حقيقته، ليس الكتب التي صدرت في هذا المضمار عن المركز، وليس الكرّاس الذي صدر عام 2010 ملخصاً نتائج ما توصلت له تلك البحوث، مع تقدير أهمية الإنجاز لأن المشروع في جوهره سيرورة وحركة وكفاح ملحمي تواصل في حلقات وبأشكال مختلفة قرابة أكثر من مائة وخمسين عاماً، منذ بدء تطلع العرب للفكاك من سلطة الاستبداد العثماني وانطلاق حركة اليقظة العربية.

ولأن الحراك النهضوي العربي، هو من فعل التاريخ، فإن تمظهراته ليست واحدة، بل خاضعة لقانون التحدي والاستجابة. فلكل مرحلة شعاراتها وأهدافها واستراتيجياتها وأدواتها. وعند كل مفترق جديد هناك حاجة ملحة للمراجعة وطرح الأسئلة. وما بات من الأهداف عرضة للنقد في مرحلة تاريخية معينة، ربما يستوجب حضوراً في مرحلة أخرى. وذلك ما يفرض على أية قراءة نقدية أن تكون تاريخية، ولا تحاكم الأمور بأثر رجعي.

مر الكفاح العربي بمحطات عدة فرضت كل منها شعارات وأهدافاً واستراتيجيات وقوى اجتماعية محددة لقيادة مشاريع التغيير. فمن مواجهة للهيمنة العثمانية، على قاعدة وحدة المشرق العربي، إلى الكفاح البطولي لمواجهة نتائج اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور واستعمار غربي مباشر للعراق وبلاد الشام بالحدود التاريخية قبل التفتيت وهجرة يهودية حثيثة ومكثفة إلى فلسطين تمهيداً لإقامة وطن قومي لليهود على أرضها، معركة استقلال شرسة، نقلت الشعارات من حال إلى حال، ووضعت العدل الاجتماعي في القلب من مشروع حركة التحرر الوطني العربي، وفي كل مرحلة قوى اجتماعية وفكرية تبرز، وتتوارى أخرى تبعاً لمتطلبات المرحلة. ومن ثم يتحقق الاستقلال، لتبدأ مواجهات ملحمية أخرى مع الداخل والخارج.

قائمة المواجهات بين مشروع التحرر والقوى التي تناهضه طويلة.. نكبة فلسطينية، عام 1948، وتأميم قناة السويس عام 1956 وعدوان ثلاثي غاشم على مصر، ثم وحدة مصرية سورية، لم تعمر طويلًا، وثورات على مستوى الوطن العربي، في العراق واليمن ومعارك تحرير في الجزائر واليمن الجنوبي، ثم نكسة يونيو/ حزيران عام 1967، ثم انطلاق للمقاومة الفلسطينية، لتؤكد رفض الأمة العربية الهزيمة، وحرب استنزاف على الجبهتين المصرية والسورية، ليتبع ذلك تراجع المشروع القومي، وانتقال استراتيجي في مفهوم الصراع مع الصهاينة. وكل مرحلة تستدعي قراءة وتصويباً لسابقاتها وذلك أمر طبيعي وبديهي، شرط ألا يكون في تاريخ تجاوز على التاريخ، وإسقاط للرغائبية، على حساب الرؤية العلمية والتحليل الصائب للتاريخ والأحداث.

المشروع النهضوي العربي، على هذا الأساس هو محطة من محطات الوعي العربي، ينبغي النظر له على هذا الأساس. ولأنه كذلك ينبغي دائماً العودة له ومراجعته وتجديده، لكي يتلاءم مع التحولات التي تجري من حولنا بسرعة البرق. نعم نحن بحاجة إلى مراجعة للمفاهيم، والأدوات والاستراتيجيات والنظرة إلى الكون، آخذين بعين الاعتبار ما استجد من تحولات علمية غير مسبوقة، نحن لا نزال للأسف على هامشها، وفي أحسن الأحوال بصيغة المستهلكين لمنتجاتها وإبداعاتها، وليس بصيغة المبدعين والمنتجين، وإن بالرؤية والفكر.

نحن بحاجة ملحة إلى توحيد زمننا بالزمن الكوني الذي نعيشه وأن نبقي الأبواب مشرعة باستمرار للنقد والمراجعة وصياغة الأقدر على جعلنا صناعاً ومبدعين في حركة التاريخ المتجهة إلى الأمام.