آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

الوباء بين الغيب والشهادة..!

الدكتور محمد المسعود

جماعة من المتدينين على أختلاف مشاربهم يهود ونصارى ومسلمين كان الغالب على قلوبهم والحاضر في وعيهم «أن الغيب» وحده ودون «علة» وبلا «سبب». هو سبيل الخلاص من هذه الجانحة التي ألمت بالعالم وحبست عنه أقوات أهله ودردرت أرزاق ساكنيه وارواحهم، وعدت هذه الجماعات العلة القريبة والسبب الظاهر يتجافى مع يقينهم ويثير الريبة فيه وينقض القدرة المطلقة ويوصم الإيمان بالضعف والوهن.

وجماعة أخرى ينحصر إيمانها «بالعلة المادية الحاضرة» وبالسبب القريب، فلمختبر هو المعبود، والباحث فيه عن «عقار» هو الإله القادر الفاعل، وهو الواهب للشفاء ومعطيه، لا ينأ عنه أبصارهم، ولا يتعلق بغيره رجاؤهم وقلوبهم.

بينما نجد في قلوبنا وفي وعينا الحاضر أن الله هو عالم الغيب وهو عالم الشهادة، وأن غيبه هو ذاته حضورالعلة وقيام السبب، كما أن النظر إليها، أو الإعتماد عليها - شرك - جلي.

فلا مشيئة ماضية إلا بمشيئته، ولا حول إلا بحوله، ولا قوة إلا بقوته، ولا علم إلا وهو عطية خالصة صرفة من عطاياه.

وإن ترك العلة والسبب هو معصية بغيضة ظاهرة لسننه الكونية التي بها أمر، وجعلها لا تتبدل ولا تتغير، ومعارضتها هي معارضة صريحة للعقل والحس، وإصرار على التلبس بالجنون. فهذا نوح على ضعف الشيبة التي بلغها يكابد «صناعة سفينة» أستعان بالمهرة من النجارين، ولم يأتمن أخشابها على أرواح المؤمنين معه إلا بعد إمعان جودة الصنعة لثلاث سنوات وتزيد، وكان الله بسلطان قدرته قادر على رفعه والمؤمنين معه من الغرق، كما هو رافع السماوات السبع والأرضين السبع بغير عمد ولا علة ظاهرة ولا سبب محسوس.

وما بالها مريم تسعى لهز جدع نخلة يباس حتى يساقط عليها الرطب تطعمه..! وما بال خشبات رقاق يلقى عليها موسى رضيعا تجرجره أصابع الموج ثم يلتقطه عدوه ليحفظه ويربيه ويكون على يديه هلاكه وغرقه وزوال ملكه..!.

لا سفينة نوح ولا خشبات تابوت موسى ولا جدع نخلة مريم، لا شيء منها ثابتا ولا شيء منها ذات قيمة حقيقية في ذاته ولكنها السبب الظاهر الذي لا يجوز تركه. وهي تمثل رمي الرماة التي قال الله لنبيه بعدها ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى والطب وسبله من السنن الكونية ومن المقدمات الواجبة، ولكن «الشفاء» منه وحده سبحانه، لأنه يمثل وحدة الجمع لعالم الغيب والشهادة، العلة والمعلوم، السبب ورفعه ﴿وإذا مرضت فهو يشفين. هو وحده بسننه الكونية وبالمقدمة الواجبة، وليس بدونها ولا بتركها، فلو أعتمدت عليها فقد أشركت مع الله فاعل قادر خالق وإن تركتها فقد عصيته لأنه أبى عليك أن تسير حياتك إلا بأسبابها فلا يستجاب لمريض بالعافية إن لم يستطب، ولا يستجاب لفقير بالرزق ولم يسع في طلبه ومقدماته، وذاك الذي يدعي على زوجته وقد جعل الله له سبيلا في إحسان تسريحها إلى أهلها بالمعروف.

نحن لا نترك الأسباب التي بها أمر، إلا أن يقين قلوبنا فيه والرجاء كله في رحمته ورأفته، أما أعيننا فلا تبصر غيره ولا ترى أحدا سواه وهذا دلالة التفويض إليه وهذا معناه ﴿وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.