آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

أيها الضيف العزيز

يقبل ضيف عزيز مكلل بكل معاني الرحمة والخيرات والجوائز السنية التي لا تقدم للمؤمن في غيره، يتحرى قدومه كل من عرف مقامه وشأنه الرفيع والغايات المرجوة من صيامه، فيشده الشوق لانتظاره بحرقة وجاذبية كمأمل ومرغوب، تتهيأ النفوس له كأوعية حافظة لقدسيته وقابلة لتلقي عطاياه.

ومع معرفة الشأن الرفيع للضيف الكريم الذي يعد فرصة غالية تلقي بظلال نفحاتها على كل جوانب شخصية الصائم، لابد من دراسة طريقة استقباله بما يليق بشأنه بعيدا عن الإهمال والغفلة، فكم من إنسان لا تنفك الغشاوة عن بصيرته فيمر عليه هذا الضيف دون أن يتزود منه شيئا، وكأنه يصر على ملازمة الشقاء والخسارة والبعد عن مرضاة الله تعالى، إذ الأجواء الروحية التي يتنفس عطرها الصائم فتكسبه حلية اليقظة والورع عن محارم الله والهمة في إتيان الصالحات قد حرم منها.

وقد يتصور البعض أن التهيئة النفسية لمقدم ضيف بهذا المستوى من الأهمية لا داعي لها، وإذا به يرى من نفسه الأنفة وعدم الإقبال وبين يديه تضيع الأوقات دون أن يلتحق بركب المؤمنين في أي محطة زمنية منه حتى يرحل وقد أورثه الحسرة والندامة، ولذا فالسبيل القويم لاستقباله يحتاج إلى وقفة تأمل مع النفس فيما مضى منا من خطايا وتقصير، إذ بدون توبة نصوح ننفض بها عنا غبار الشهوة والغفلة ونعلن فيها التخلي عن مسار الاستجابة السريعة لخطوات الشيطان، فلن ننعم بإقبال وطمأنينة وأنس بذكر الله عز وجل في محراب الصلاة والمناجاة، فمن تلوثت جوارحه بالمعاصي لن يكون محلا للنفحات الإلهية، فما منعه من طهارة النفس من شوائب الذنوب هو إصراره في البقاء على سوء الحال وتكبيل الإرادة بالنزوات والأهواء.

هذا الضيف الكريم له قدرة فائقة على إحداث التغيير الإيجابي وصناعة النفس النقية من خلال برنامجه العبادي والأخلاقي والاجتماعي والثقافي المكثف، فهو دورة متكاملة في تنمية الطاقات والأخذ بها نحو الألق والعمل المثابر، وينزع من الصائم ما علق به من عيوب ورذائل كادت أن تتجذر فيه كسلوكيات راسخة، فهذا الضيف لا يلامس القشريات والظواهر من الشخصية بل يتصل بأعماقها، وما إن تنتهي الدورة الإنمائية الشهرية حتى يرتكز في جوهر شخصيته مجموعة من القيم والآداب التي تعلي شأنه.

ولا يمكن لأحدنا أن يدعي المعرفة النورانية بهذا الضيف الكريم، وما يشتمل عليه من غايات ومقاصد يقدر على استيعابها وتطبيقها، ولكن المطالعة لما ورد في كتاب الله تعالى والروايات الواردة عن الرسول الأكرم ﷺ والعترة الطاهرة تضيء جانبا كبيرا من معانيه ومضامينه التي ينبغي الالتفات إليها لمعرفة عظمته، ولذا يستحسن الدخول إلى بوابة التعريف به من خلال هذه القناة المعرفية، وبنظرة سريعة إلى مضامين خطبة الرسول الأعظم ﷺ الشعبانية نجد أن معاني الصوم أسمى من مسألة الإمساك عن الطعام والشراب، إذ تضمنت الكثير من المفاهيم الأخلاقية كبرنامج يتحلى فيه بتلك القيم التي تسمو به في فضاء الخلق الرفيع والتعامل الراقي مع الآخرين.

فالصوم في أجلى معانيه كف النفس عن المحرمات بالمعنى الأعم مسئولية تنبيء عن مجاهدة للنفس وعمل مثابر، فكفى بشرف الضيف الكريم انسابه واقترانه بلفظ الجلالة في بهائه وعطائه وحرمته.

الضيف الكريم يقبل علينا بكل ما نحمله من تقصير وعيوب وضعف إرادة في مواجهة المغريات؛ ليغير من مكنون أنفسنا ويلبسنا من خلال هذه الدورة التنموية صفة الصبر وقوة الإرادة في مواجهة المخاطر والأضرار مهما بلغت درجة قوتها، وليس هناك من خطر محدق بالمستقبل الأخروي كارتكاب المعاصي والاستدراج إلى وحل الأهواء والشهوات، ومتى ما بنيت غرفة القرار والسيطرة المحكمة المكونة من عقل واع وإرادة الممانعة فإن الإنسان يسمو بحريته وكرامته، فالامتناع عن المفطرات تمرين وتعويد على ضبط النفس للحيلولة دون سيطرة الغرائز المتفلتة، ومن ثم ينطلق بعد توديع الضيف الكريم متسلحا بقوة ضميره اليقظ ومحاسبته لنفسه.