آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:17 م

كبر دماغك

نظرتنا للأمور والأحداث والمصاعب التي نمر بها وما يكتنف علاقاتنا المتنوعة من اهتزازات، تعد منطلقا مهما لشق طريقنا في الحياة وتحصيل راحة البال وهدوء النفس، إذ هناك من يرى المواقف البسيط كأنها صخرة متدحرجة ستسقط على رأسه وتقضي عليه، وكل مواجهة مع كل صعوبة يسبقها الإحساس منه بالهزيمة والسقوط فيخفق قبل أن يبدأ أي خطوة، وهناك من يقتله القلق من المستقبل المجهول لا لشيء سوى مروره بأزمة عابرة، إذ يستطيع بشيء من الصبر والصمود تجاوزها بأقل الخسائر، ولكنه ارتأى أن يخلد إلى إحساسه بالضعف والعجز أمام مشكلة، لا تستحق كل ذلك التكوم على نفسه وإحساسه بالخيبة.

النظرة الإيجابية لما نمر به من صعوبات يغير مجرى حياتنا بشكل كبير، ويفتح آفاق تفكيرنا على التخلي عن المشاعر السلبية بالإحساس بالألم والقلق من المستقبل المملوء بالتشاؤم والسوداوية، فنظفر بالاتزان الفكري والانفعالي أمام أي أزمة أو صعوبة وهذا ما يشكل بداية الخيط لأي حل ننشده، ونتعامل مع الواقع الصعب بشيء من المنطقية والتفكير السايم الباحث عن مخارج ممكنة.

ولعل في الأحداث الجسام ما يكشف لنا عن حقيقة غائبة عن بالنا واهتمامنا، فكم من حدث ثقيل على قلوبنا اعتصرها ألما وعانينا الأمرين أثناء دورته المرة، اكتشفنا خلالها من تقدم من الأصقاء البعيدين إلى الصفوف الأولى مبديا كل ألوان المساندة والرعاية وتخفيف الآلام حتى يعيد لنا توازننا، فنبدأ في إعادة حساباتنا وعلاقاتنا مجددا وفق مباديء الاختيار المتأني، وكم من زوج أو زوجة لما يفهم حقيقة مشاعر شريك حياته في خضم مشاغل الحياة وتعقيدات مشهدها وتشابك العلاقات، فجاء له الخبر على جنح السرعة حينما وقع في مشكلة رأى حينها ما كان خفيا عليه، فروح المحبة والاحترام التي توارت وراء حجاب المناكفات وسوء الخلاف قد بدت اليوم جلية، وهكذا في كل صعوبة وأزمة مررنا بها سنجد الوجه الآخر المضيء لما كان ماثلا أمام أعيننا من وجه مشكلة مظلم.

ولعلنا نتعلم روح التغافل عن بسائط الأمور وصغائرها بعد أن كنا ننفعل ونحرق أعصابنا لمجرد خلاف أو سوء فهم عابر، فالحنق وحالة الغضب الشديد يبدو الرد الأولي لأي موقف لا يعجبنا أو نشم من خلاله اقتراب من ساحة كرامتنا، بينما الموقف في حقيقته لا يستحق كل ذلك التهويل والتضخيم، فترفعنا عن روح المشاحنة والمواجهة لكل ما يصدر من الغير بروح ردة الفعل العنيفة يدخلنا في دهاليز القلق والاضطراب النفسي ومضيعة الوقت مما لا فائدة ترجى منه، فلندع المواقف تمثل الغير في طريقة تفكيره وتربيته ولنحتفظ لأنفسنا بالأدب وروح العطاء، فكل تلك التشنجات استنزاف لطاقتنا النقسية.

وقد نخوض بعض المعارك طالبين فيها الانتصار تلو الانتصار، فأي مواجهة مع الغير نشعر بأننا كالفارس الشجاع الذي ينتظر مصرع الطرف الآخر، إنه سراب وهم نعيشه لأوقات متطاولة حتى يأتي الوقت المتأخر الذي نكتشف معه أنها أوقات ضائعة، إذ كنا نفتح من كل سالفة وكلمة قضية تستحق العراك من أجلها، فقد تغلبنا الغيرة أو نبرة النكد أو الرغبة بإثبات الوجود فندخل في مواجهات تطول ونستغرق فيها حتى تصبح شغلنا الشاغل، وتهيج بنا الذكرى لاستعراض تلك المواقف الساخنة لنكتشف أنها تافهة!

لن نجد طريقا للخروج من دوامة ومتاهات المشاكل والهموم المفتعلة والتي نصنعها بأيدينا ونسعى إليها مهرعين، إلا بالتصالح مع أنفسنا ومن ثم التسامح مع من حولنا، فالصفح عن هفوات الآخرين سيجنبنا التوترات الناشئة من الخلافات وردود الفعل المتشنجة، حينها سترى مشهدا آخر من محبين لك سيعاملونك بنفس التعامل من التسامح والتغافل عن هفواتك، وأما من كانوا يشاركونك في تلك المعارك الجانبية فبقليل من تجنب المواجهات النارية ستجد نفسك بعيدا عن لهب مشاحناتهم، مما ينعكس على نفسيتك بالارتياح وهدوء البال.

أجمل ما تكشفه لنا الأيام بعد الاتعاظ واستلهام الدرس المهم هو التخلي عن روح المواجهات والمناكفات، فما كنا عليه من دوران مع الحياة بتعقيدات مشاهدها آن له أن يتوقف، وصغر عقولنا المتابعة والمدققة لكل ما يصدر من الغير - مهما كان بسيطا - أمر غير مقبول بعد اليوم، فلنترفع عن أذية الآخرين في مشاعرهم وخصوصياتهم، فبالمحبة نسمو في فضاء العلاقات المستقرة والناجحة.