آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

في أزمة الدولة العربية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

أخفقت الدولة الوطنية في دمج قوى المجتمع وكياناته في إطار حكم القانون، ومواطنة الحقوق المتساوية، والتوزيع العادل للثروة.

مرت أكثر من خمسة عقود منذ أنجزت البلدان العربية استقلالها. واقع الحال أن عدداً من الدول العربية، حققت الاستقلال السياسي، منذ أكثر من ثمانية عقود. وعلى الرغم من مرور وقت طويل على ذلك، فإن هذه الدول لا تزال تعاني أزمات عميقة ومتشعبة وحادة. وللأسف، فإن حدة هذه الأزمات بلغت مستوى خطراً هدد بالفعل، وحدة وسلامة هذه الدول، وتسبب في انهيار بعضها.

وعلى رأس قائمة الأزمات التي تعانيها الدولة العربية، يأتي خلل التوازن في العلاقة بين نخب الحكم والمواطنين، وغياب قبول الشعب بمؤسسات الدولة وأدائها، وتفاقم التدخلات الخارجية في الشؤون العربية.

وليس من شك في أن هذه الأزمات، أدت إلى إعاقة التنمية، وانتهكت أساسيات العلاقة التعاقدية بين البنائين الفوقي والتحتي، وغيبت دور مؤسسات المجتمع المدني. والنتيجة هي ما نشهده الآن من تآكل للسيادة الوطنية، وتفكك للدولة.

في ظل هذا الفصام السياسي، لم يعد بد من التركيز على بناء الدولة العربية على أسس عصرية، والاهتمام بالبعد الاجتماعي، في صنع القرار. إن ذلك يتطلب التركيز على مبدأ سيادة القانون، وتعميم مبدأ المواطنة المستند إلى الحقوق المتساوية، وتغليبها على الهويات العرقية والقبلية والطائفية، باعتبار ذلك من بديهيات التحديث.

إن تعثر مسيرة بناء الدولة على أسس عصرية، في الوطن العربي، هو أحد أوجه أزمة الدولة، في حين يتجلى الوجه الآخر في ضعفها، وتآكل شرعيتها. لقد توارى المشروع التحديثي وأخفقت الدولة الوطنية في دمج قوى المجتمع وكياناته في إطار حكم القانون، ومواطنة الحقوق المتساوية، والتوزيع العادل للثروة، وتقديم الخدمات الرئيسية في قطاعات حيوية كالتعليم وفرص السكن والعمل، والصحة والتأمين الاجتماعي.

ويمكن في هذا السياق، التمييز بين أربعة أنماط من الأزمات التي تعانيها الدولة العربية: خطر عجز الدولة وانهيارها، وأزمة تراجع قدرات الدولة وغياب فاعليتها وشرعيتها المجتمعية، وأزمة استمرارية الممارسات السلطوية وغياب الحكم الرشيد، وأزمات الاندماج والهوية المكرسة لانفصال المجتمعات عن دولها.

في ما يتعلق بخطر عجز الدولة وانهيارها، شهدنا انهيار عدة نظم سياسية وتشظي أوطان في عدد من الأقطار العربية في العقدين المنصرمين، نتيجة العجز عن ضمان الأمن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية، وتمرد مناطق مختلفة على السلطة المركزية بسبب التهميش الاقتصادي والسياسي والثقافي.

ولا شك في أن المحدودية الشديدة لموارد المجتمع الأساسية، وبشكل خاص المياه ومصادر الطاقة، والكثافة المتزايدة للسكان، والتدخلات الخارجية الدولية والإقليمية، ومن تنظيمات عنفية وجدت في بعض مناطق هذه البلدان فضاءات مفتوحة لعملياتها، أسهمت مجتمعة في مضاعفة الأزمة.

هناك أيضاً أزمة الاندماج والهوية، حيث تتراجع قدرات الدولة وفاعليتها على نحو يفقدها شرعية الوجود. وتتركز هذه الأزمة في الغالب في المجتمعات التي تتعدد فيها الأعراق والطوائف. وفي الحالات التي تسود فيها «المحاصصات»، تفقد الدولة قدرتها على الاضطلاع بإدارة موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية لمصلحة المشروع الوطني، بعد استيلاء الطوائف والتنظيمات الرديفة لها على الوظيفة التوزيعية للدولة.

وهناك أيضاً أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع، والاستعاضة بسلطات أهلية وسيطة لا تنسجم وظائفها مع متطلبات الدولة الحديثة. إن أزمة هذه الدول هي استعاضتها بالطائفة أو القبيلة كوسيط بينها وبين المجتمع، بديلاً عن المؤسسات التشريعية وقوى الضغط والمصالح، المعترف بها بموجب القانون أو العرف.

وهناك أيضاً غياب العدالة الاجتماعية ومؤشراتها المتمثلة في ارتفاع معدلات تراكم الثروة، واتساع الهوة بين الغنى والفقر، وأثر ذلك في شرعية الدولة وفاعلية مؤسساتها.

كل هذه الأسباب تسهم في مضاعفة تأثير المحيط الإقليمي والدولي في أزمة الدولة العربية. فمن المؤكد أن تلك المؤثرات كان لها دور كبير في إعادة صياغة الخريطة السياسية والمجتمعية للبلدان العربية.

لقد أصبح الوطن العربي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في مطالع التسعينات من القرن المنصرم، هدفاً في الاستراتيجيات المعاصرة للدول الكبرى، تحت شعار «محاربة الإرهاب». أما على الصعيد الإقليمي فقد غاب مركز الثقل العربي، وتضاعفت درجة الانكشاف للمنظومة العربية الرسمية أمام موجات الاختراق والتغلغل الأجنبي، وكذلك الخطر الإقليمي المرتبط ب «إسرائيل» واستمرار احتلالها للأرض العربية، والتحديات المرتبطة بصعود الأدوار الإيرانية والتركية، وتراجع دور العمل العربي المشترك.

إن أي مشروع عربي جدي للخروج من الأزمة، وإعادة الروح إلى العمل العربي المشترك، يفترض فيه أن يعالج الأولويات، وينطلق من معالجة أزمة الدولة العربية، ومن غير ذلك سيكون العمل العربي المشترك هو تجميع لحالات مرضية مزمنة، لن تأخذ مكاننا في المسيرة الإنسانية الصاعدة إلى الأمام من غير معالجتها.