آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 7:46 م

سؤال أصل اللغة وتطورها

الدكتور أحمد فتح الله *

مِنْ حَظْر إلى عِلْم ومؤتمر سنوي

تعتبر القدرة اللغوية أمرًا محوريًّا لما يعنيه أن تكون إنسانًا، وبالتالي يجب أن تكون مسألة كيفية ظهور اللغة مركزية في مسألة أصول الإنسان. لكن لفترة طويلة، لم يحظ هذا السؤال باهتمام علمي جدي. من الطبيعي، كانت هناك ”فرضيات“ نظريَّة، على سبيل المثال، نظرية ”باو - واو“ «Bow-Wow» التي تقول إن اللغة نشأت من محاكاة «تقليد» أصوات الطيور والحيوانات، ونظرية ”دينغ دونغ“ «Ding-Dong»، مثيلتها، والتي تفترض أن لكل شيء صدى تذبذب طبيعي وأن كلام الإنسان بدأ بترديد لهذه الأصوات، ونظرية ”يو - هي - هو“ «Yo-He-Ho» التي ترى أن اللغة نتيجة لعمل مجموعة إيقاعات متداخلة، متوافقة مع المجهود العضلي الذي ينتج الأصوات، مثل التنهد المتكرر مع صوت ”هو“ «ho»، لكن هذه النظريات وغيرها كانت ”تكهنات“، وتبقى هكذا. الدراسة العلمية عن تطور ظاهرة لا تترك آثارًا مادية أو آثارًا أحفورية بدت ميؤوسًا منها، خاصةً أن الطريقة الأساسية هي ”البحث عن أدلة“. أحد المؤشرات على صعوبة الأمر جاء قبل 150عامًا بالحظر الشهير الذي أصدرته الجمعية اللغوية في باريس عام «1866» على أي أوراق بحثية تتعلق بأصول اللغة. وتبعته الجمعية البريطانية أيضًا في فترة لاحقة.

في النصف الأخير من القرن العشرين، أدى تطوران في علم اللغة إلى تغيير المشهد العلمي بطريقة أرست الأساس لنهج جديد لدراسة ”أصول اللغة“. أولًا، أكد نعوم تشومسكي أن اللغة هي خاصية للعقل البشري، وبالتالي جلب علم اللغة إلى علم النفس وخلق مجالًا يعرف باسم ”علم اللغة النفسي“، والذي يشار إليه الآن في كثير من الأحيان باسم ”علم نفس اللغة“. ثم أكدت ليدا كوزميدس وجون توبي «Leda Cosmides and John Tooby» أن العقل، كما الجسد، هو نتيجة الانتقاء الطبيعي، وبالتالي جلب التطور إلى علم النفس وخلق مجال ”علم النفس التطوري“. أثارت مبادئ هذين المجالين معًا مسألة كيفية تطور اللغة. عندما أصبح اللغويون مهتمين بالمسألة، ظهر ”علم اللغة التطوري“ «Evolutionary Linguistics»، ويعرف بالاختصار ”إفيولينغو“ «evolingo»، وبما أن هذه التطورات النظرية جعلت البحث في مسألة أصول اللغة مشروعة، فإن التطورات في مجالات العلوم ذات الصلة جعلته مثمرًا بشكل لافت. ساهم الباحثون في مجالات متعددة، ك ”الذكاء“ و”التواصل الحيواني“، و”علم الوراثة“، و”علم الأعصاب“، و”النمذجة الحاسوبية“، و”علم النفس التنموي“، جميعًا كي تصبح دراسة كيف ”تكونت اللغة“ مجالًا علميًّا مهمًا ونشطًا.

في كتابها ”الكلمة الأولى: البحث عن أصول اللغة“ [1] ، تصف كريستين كينيلي التاريخ والحالة الحالية لهذا المشروع للجمهور العام «غير المتخصص». المهمة التي اضطلعت بها، وهي وصف العديد من المجالات عالية التقنية التي تتناول هذا الموضوع، هائلة ودقيقة. الحديث عن أصل اللغة وتطورها لابد أن يمر من خلال قامات بحثيَّة «أو فرق بحثيَّة» لهم مواقف مختلفة بشأن هذه القضية. تبدأ كينيلي، بشكل حتمي، باللغوي نعوم تشومسكي «Noam Chomsky»، الذي ابتدأ الدراسة المعاصرة للغة. ارتبط تشومسكي، تاريخيًّا، بالموقف القائل بأن قدرة اللغة البشرية هي وحدة قائمة بذاتها، منفصلة عن القدرات المعرفية الأخرى وغير مرتبطة بالأغراض التواصلية التي يتم وضع اللغة بها، وكيف أصبحت؛ هذا الجانب لا يهم تشومسكي بشكل خاص، وقد أعرب علنًا وبشكل متكرر عن تحفظاته حول تناول هذا السؤال. أمَّا ”سو سافيج - رومبو“ «Sue Savage-Rumbahugh»، التي قامت بدراسة وتدريس نظام اتصال يشبه لغة «قرد» البونوبو «Bonobo»، ترى اللغة كنظام تواصل له جذور في القدرة التواصلية للقرود، في حين أن عالم النفس ستيفن بينكر «Steve Pinker» وبول بلوم «Paul Bloom»، الذين جعلا موضوع ”تطور اللغة“ يتطور قدمًا في علم النفس الحالي بمقالهما المشترك بعنوان ”اللغة الطبيعية والانتقاء الطبيعي «Natural Language and Natural Selection»، سنة «1990»، والذي طرحا فيه بأن اللغة هي“ قدرة متطورة ”. ولدعم نظرتهما ناقشا رؤية عملاقين في هذا المجال: تشومسكي «الذي سبق ذكره آنفًا» والمنظر التطوري“ ستيفن جاي جولد ”«Stephen Jay Gould»، الذين جادل كُلٌّ منهما، على انفراد، لعقود بأن اللغة في حد ذاتها ليست تكيفًا بل نتيجة ثانوية لتكيفات أخرى، على سبيل المثال،“ [تطور] الدماغ الكبير ”. والجدير بالذكر، أن فيليب ليبرمان «Philip Lieberman»، تلميذ تشومسكي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «Massachusetts Institute of Technology»، المعروف بالاختصار «MIT»، تابع دراسة ”الفيزياء الحيوية للكلام والاستمرارية عند البشر وغير البشر“، وهو ما يتعارض تمامًا مع موقف أستاذه تشومسكي بأن قدرة اللغة البشرية وحدة منفصلة عن العقل.

الموقف الذي يتبناه الكثير، بما فيهم كينيلي في كتابها، هو وجهة النظر الأكثر شيوعًا في هذا المجال: أن القدرة البشرية للغة تتكون من قدرات متعددة، لكل منها تاريخها التطوري الخاص. المكونات المركزية، لما تشير إليه كينيلي باسم ”مجموعة اللغة“، هي القدرة المعرفية الاجتماعية للحصول على نوايا تواصلية، والقدرة على الإحالة، والقدرة على إنتاج وتفسير تسلسلات منظمة. تتحقق هذه القدرات في الكلام أو الإيماء «الإشارات». كل قدرة لها تاريخ تطوري وقدرات سابقة، يمكن رؤيتها في الأنواع الأخرى. «كل قدرة من هذه القدرات يتم تمثيلها في الدماغ وتشفيرها في الجينوم.» ورغم النتائج المقنعة لعدة أبحاث ذات الصلة، على سبيل المثال لا الحصر، التواصل عند القردة، والخلايا العصبية المرآتية، والعقد القاعدية، والبنية اللغوية، وجين FOXP2، ليس من الواضح حتى الآن كيف تتلاءم كل هذه القدرات في ما بينها لِتُكَوِّن القدرة اللغوية عند الإنسان [2] .

بعد نقاش جاد لعمليات التطور البيولوجي والثقافي، وتوقع الوجهة النتي سينتقل إليها مجال أصول اللغة في المستقبل، تختم الدكتورة كينيلي عرضها بإجابات العديد من الشخصيات الرئيسة في هذا المجال على السؤال الذي طرحته عليهم، إلا وهو: ”إذا تم عزل مجموعة من الأطفال ولكنهم تمكنوا بطريقة ما من البقاء على قيد الحياة، فهل سينتجون لغة عندما يكبرون؟“ تشير الإجابات إلى الرؤى التي يحملها الباحثون في هذا المجال حاليًا، وتشمل كلا من ”لا“ و”نعم“، ولكن الإجابات الإيجابيَّة تشير إلى مجموعة من الشروط الضروريَّة، بما في ذلك وجود سبب لتواصل الأطفال مع بعضهم، وبشكل سلمي واجتماعي.

مثَّل كتاب «الكلمة الأولى: البحث عن أصول اللغة» مجال ”علم اللغة التطوري“ تمثيلًا جيدًا، وكل العلوم التي تصفها المؤلفة قد تم إنجازها تقريبًا في الأربعين عامًا الماضية أو أكثر قليلًا؛ وبها انتقلت دراسة تطور اللغة بشكل هائل؛ من حَضْرِ الحديث عنها من قبل اللغويين في عام 1866 لتكون موضوعَ علومٍ أكاديميَّة متخصصة بها، ومجلة علميَّة مُحَكَّمَة، ومؤتمر سنوي خاص بها، عمره الآن ثلاثة عشرة سنة، حيث آخر مؤتمر، رقم 13، عقد في مدينة بروكسل في بجليكا في 14-17 أبريل سنة 2020 «Evolang XIII: 14-17 April 2020، Brussels، Belgium»، حتى وصل بنعوم تشومسكي، المشكك في الأمر، أن يقول، بعد اجتماع عام 2005، ”لم أكن لأتخيل أنه يمكن أن يذهب [هذا النقاش] بعيدًا“ «ص 80».

هذا النقاش وتطوره جعل الإجابة عن سؤال لماذا اختص الإنسان باللغة أسهل نوعًا ما، ويقترب من العلمية المدعومة بالأدلة والنظريات الثريَّة. بعد هذه الخلفية التمهيديَّة، وما سبقها من كلام في مقال سابق «الإدراك المعرفي واللغة، منشور في جهينة بتاريخ 2020-10-24»، أحاول في مقال قادم أن أختصر ”مكونات“ هذه الإجابة.


الهوامش

[1]  كريستين كينيلي ”الكلمة الأولى: البحث عن أصول اللغة“، مجموعة بنغوين، مجموعة نيويورك، 2007م.

Christine Kenneally، The First Word: The Search for the Origins of Language. Penguin Group: New York، 2007.

[2]  جادلت إليزابيث بيتس «Elizabeth Bates» لسنوات بأن اللغة هي ”آلة جديدة مصنوعة من أجزاء قديمة“، ولم يحظ رأيها بقبول كثيرٍ من الباحثين ”الكبار“.
تاروت - القطيف