آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 7:35 م

بين الصراحة والوقاحة - شكرًا لمن أهداني عيوبي!

صديقي يشبه أباه، هكذا هو يجزم، صادقٌ مع نفسه وصريحٌ مع الناس! لا يخفي شيئًا في داخله، وكل ما في قلبهِ يجري على لسانه. أهله ينصحوه بأن يخفف من الغلواء في هذه ”الصراحة“ والإفراط ومجاوزة الحدّ، ويجامل ولو قليلًا، والجواب هو: هذا مستحيل! مع أن كل الحكايا والقصص التي يذكر فيها ”الصراحة“ كانت في مواضع نزاعات وصراعات، ولا أذكر واحدةً كان فيها بهجة راحة.

صفةٌ احترتُ أن أمدحها أو أذمها، فلو كانت صفةً فاضلة، لم ينهاه عنها الأقربون. ولم يأمر بعكسها العقلاء:

ومَن لم يُصانِعْ في أمورٍ كثيرةٍ

يُضرَّسْ بأنيابٍ ويُوطَأ بمَنسِمِ

قالوا عن ذمّ المَلَق، ولم يذمّوا أو يَستحقروا المجاملةَ والمداراة فعن النبيّ ﷺ: ”ليس من خلق المؤمن المَلَق“. وأن يكون الإنسان ذا وجهين ولسانين، يطري ويمدح شاهدًا ويأكل أخاهُ غائبًا. ومن المؤكد أن الصراحة التي دائمًا يظن بعضُ الناس أنهم يملكون زمامها هي صفة أخرى.

ومن نوادر العرب في ”الصراحة“ أن وقع بين الأعمش وبين امرأته وحشة، فسأل بعضَ أصحابه من الفقهاء أن يرضيها ويصلح بينهما فدخل إليها وقال: إنَّ أبا محمد شيخ كبير فلا يزهدنك فيه عمش عينيه، ودقة ساقيه، وضعف ركبتيه، ونتن إبطيه، وبخر فيه، وجمود كفيّه، فقال الأعمش: قم قبحك الله فقد أريتها من عيوبي ما لم تكن تعرفه.

قولوا للنّاس حسناً، لأنَّ للكلمة الطيبة هي تسبق ما بعدها من أفعالِ الخير والمحبة والإخلاص، على مستوى حركة العلاقات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث تكون الكلمة الطيبة والقول الحسن والأسلوب الجميل ما يفتح القلب وينعش الروح، ويقرب الإحساس، ويقوي الروابط بين النّاس.

”لاقيني ولا تغديني“ من أجمل ما قالته الشعوب في النصائح، حيث السرائر والنوايا لا يعلمها إلا خالق البشر، ولسان البَشَر أفضل من يعبر عنها، فللصراحةِ مكانًا ووقتًا تكون فيها راحة النفس وتقول ما يضنيها، دون أن تكون تلك الراحة إزعاجًا وألمًا لمن يسمعها، ومن المؤكد أنَّ جميعَ اللغات تسع جميعَ الشكاوى والنَّقد بطرقٍ راقية وبديعة، وإن كان فيها صراحة بينةً وواضحة.

نجعل العيوبَ هدايا ونغلفها بأجمل اللفافات، ومع ذلك قد يردها الناسُ ولا يقبلوها، فكيف إذا كانت في كلماتٍ جارحة، بدعوى ”الصراحة“ التي بينها وبين ”الوقاحة“ خيط أدق من الشعرة؟!

مستشار أعلى هندسة بترول