آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 12:34 ص

رياحُ الشمال - تعيد شتاءَ البحارة القدامى

كانت الريح تعوي قادمةً من الشمال يومَ أمس، الحادي والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الثاني، وباردة أكثر من ذي قبل، أو هكذا بدا لي. فأثارت هذه الريحُ ذكرى قسوة وصعوبة حياة الأجيال السابقة، وأعتقد أن أصعبَ مهنة كانت الصيد في الشتاء!

لا أزال أتذكر هيئةَ والدي وأنا خارجٌ للمدرسة طفل صغير ثم يافع، وهو للتو قادمٌ مبلل الملابس والأطراف كادًّا كادحًا من أجل أن يؤمن ما يكفي لعياله وأسرته الكبيرة نسبيّا. وأصعب ما في هذه المهنة أن يعود خالي الوفاض بلا شيء حين تقتلع الرياحُ حظائرَ صيده أو ”الحضرة“، ثم عليه البحث عمن يبنيها ويرقعها مرةً ثانية. ساعات قليلة من الراحة وبعدها يهب للعمل في الفلاحة حتى تغرب الشمس!

هم رجالٌ من جيلٍ عمل بجد ولم يسترح، وبعكس - بعض - شبّان اليوم الذين ارتاحوا للكسل ودعة العيش وكأنهم لم يعرفوا كيف عانى وقاسى من قبلهم من أجلهم. أنا جربتُ هذه الرياح في البحر المفتوح والصحراء الواسعة في الشتاء، فوجدتها إذا هبَّت بعنف تكاد تشل الأطرافَ عن الحركة، فكيف إذا اجتمعَ معها برودةُ الماء وسهر الليالي؟

أظن أنَّ ما كان يدفع البحارة بالإضافة إلى طلب الرزق، هو العلاقة الحميمة والتنافسية التي بنوها بينهم حين يجلسون حول المدفأ في انتظار أن يسمح لهم الجزر وانحسار المياه أن يدخلوا عمق البحر، فكانت النار تدفئ أطرافهم وحكايات الصحبة تبعث في قلوبهم الأنسَ والراحة.

بالفعل، كان جيلًا حظي بالقليل من ملذاتِ الدنيا، فلعل الله أن يعوضهم خيرًا مما خسروا، وأن يبعث في الأجيالِ القادمة حبَّ العمل والكفاح والجد، الذي يبدأ في صفوفِ المدارس والجامعات، ثم يتحول منها نحو المعامل والمصانع والمختبرات، من أجل بناءِ مستقبلٍ افضل لهم ولابنائهم ومن أجل الإنسانية جمعاء التي نحن جزء منها.

هي الشعوب، لن تصل لمراتبَ أعلى من غيرها بالراحة، أو لأنها تملك لغةً أو دينًا أسمى، بل ترتقي لأنها تملك سواعدَ أقوى وعزائم أمضى، وبين أذنيها أدمغةً تعمل دون كللٍ أو ملل. فهو الله سبحانه من يمنح ويعطي للكافر والمؤمن من الدنيا والآخرة تفضلًا وكرمًا منه، فهاهي الشمس تعم الجميع وهاهو الهواء والماء لكل أبناءِ آدم على السواء!

مستشار أعلى هندسة بترول