آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

على طاري الشعر..

أثير السادة *

كان الشعر في الطفولة أناشيدا نحفظها في أول دخول من باب الدراسة، أبيات قصيرة وخفيفة، غنائية في مبناها ومعناها، كانت يومها بمثابة التمارين الأولى لتذوق الشعر، والإحساس بموسيقاه الداخلية.. يتذكر الناس هذه الأناشيد اليوم بشيء من التندر وشيء من الحنين، لبساطتها من جهة، وحسها التعليمي الفاقع من جهة أخرى.. غير أنها الغرس الأول في تربة طرية تشتهي الإيقاع والسجع.

كبرنا وتصاغر حجم الشعر في فصول الدراسة بعد أن انفتحنا على عناوين أكبر وأوسع عنوانها الأدب، لا أذكر من تفاصيلها شيئا، سوى أننا مررنا بأعلام الشعر العربي الخالد، من أرباب المعلقات، إلى رموز الشعر في القرن العشرين.. لم نحفظ الكثير من هذه الأشعار التي ربما أخذتنا الدرجات إلى رفعها إلى الذاكرة المؤقتة ومن ثم إزالتها، بينما في المقابل حفظنا قصائد أخرى تسللت من دفاتر الإنشاد الديني الذي أتكأ هو الآخر على البنية الغنائية في القصيدة، مديحا ورثائا، حماسة ومقاومة، فصرنا نمور مع تلك الأبيات مورا، ونحفظها عن ظهر قلب، الردئ والجيد منها.

ولأني ممن تحضره المكتبة في صباه، وجدت الطريق إلى أصوات شعرية أخذتنا بغوايتها، من أمثال أبي القاسم الشابي والمتنبي، قبل أن تجرنا الأجواء الساخنة سياسيا إلى أحمد مطر ومظفر النواب، نغرف من هذا ومن ذاك، ونشعر بأن لكل مشرب طعم خاص، لا نقدر على وصفه ربما، لكنه يبقى ذا أثر في تشكيل ذائقتنا الشعرية.

اليوم نفتح عيوننا على كل ألوان الشعر، نقلب كل الدواوين الحديثة، تحت يافطة الإيمان بالحداثة الشعرية، نتعثر بالكثير من الأسماء المهمة وغير المهمة دون أن نحفظ الكثير من قصائدها، لأنها في الغالب خلت من الإيقاع الموسيقي الذي يخفف على الأذن والقلب مهمة الحفظ والإصغاء.. خرج الشعر من مجرد كونه صورا وخيالا ومجازات إلى معادلات رياضية، تحتاج إلى الكثير من الوقت للتفكيك، عمليات ذهنية لنقل، لأن السياق واللغة والقوالب كلها تخلخلت، وأصبحنا أمام لعبة لغوية بامتياز.

مازلت أذهب للشعر، لكن بنوايا مختلفة، أبحث في شقوقه عن تفاصيل صغيرة، أقبض من خلالها على صورة الشاعر، ومزاجه، وصورة الزمان والمكان الذي كتبت فيه، أشعر بكثافة اللحظة في شكل المفردة وموضوع القصيدة، وحتى تماوجات المعنى فيها، هنالك خيط رفيع يمتد في سيرة كل شاعر، يختصر الطريق إلى التنور الذي يشكل فيه قصائده إن صح القول.

ما عدت أبحث عن أسماء في عالم الشعر بقدر ما أبحث عن موضوعات، سأقرأ الكثير من شعر الحنين والشوق والاغتراب والاحتجاج للمجاهيل من الشعراء ومشاهيرهم، سأتسكع في شوارعهم واتهجى ما تناثر في أزقة اللغة، سأجرب المقارنة بين مزاج شعراء المهجر القديم، والمهجر الجديد، وبين الشعراء الشباب في اليمن والعراق، فهنالك تتمدد الشمس لتعكس ظل التعب المنثور في حياة الناس، وتجعل من الشعر منصة مفتوحة على الوجع، والانتقام من الواقع، ولو ببيت شعر.

فكل بيت شعر وأنتم بخير.