آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

قصة السفينة كموضوع للتعليم

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

لفت نظري هذا الأسبوع قصة صغيرة، يحتمل أنَّ كثيراً من القراء قد مرُّوا بها أيضاً. فحوى هذه القصة أنَّ «سي إن إن» قناة الأخبار الأميركية الشهيرة، استغلت اهتمام العالم بالسفينة إيفرغيفن Evergiven التي جنحت وأغلقت قناة السويس في الأسبوع الماضي، فأجرت تحقيقاً على شكل أسئلة وجهتها للأطفال، حول كيفية إنقاذ السفينة. يحتمل أنَّ غرض القناة كان ترفيهياً في المقام الأول. لكنَّه أثار في ذهني سؤالاً جدياً، فحواه: هل يمكن لتحد كهذا أنْ يساعدَ في توجيه الأطفال إلى نوعية الاهتمامات التي نريد أن يهتموا بها في مستقبل أيامهم؟

دعني أوضح نقطة ضرورية هنا: إنني لست من أنصار الرؤية القائلة بأنَّ علينا تلقينَ الأطفال ما هو صحيح وما هو خطأ. لكنني أيضاً لا أؤيد ترك الطفل من دون توجيه. الصحيح في رأيي هو الخط الواقع بين الرؤيتين: دورنا ليس تحويل أبنائنا إلى نسخ مكررة من أشخاصنا أو عقولنا، بل نكتفي بمساعدتهم على تكوين نقطة انطلاق لحياتهم. إنَّ الغفلة عن توجيههم إلى نقطة بداية سليمة قد تؤدي إلى ضياعهم، أو ضياع سنوات من عمرهم قبل العثور على الجادة الأفضل.

بعد هذا الاستطراد أعود لموضوع السفينة. فهو يشكل مثالاً على هذا النوع من المواضيع الذي تتداخل فيه حقول معرفية عديدة interdisciplinary فوق أنه ينطوي على نقاط إثارة وإمتاع. ومن هنا فمن الممكن استثماره كموضوع تعليمي، مع التركيز على المساءلة والبحث. نحن نعلم بأنه أثار اهتمام مئات الآلاف من الناس، من واقع عدد قراءات الأخبار ومشاهدات الفيديوهات الخاصة بالحدث على شبكة الإنترنت. أما كونه موضوعاً تعليمياً ذا حقول متداخلة، فلأنَّه يستدعي الحديث «ومعه التفكير» في التجارة العالمية، وتكريسها لمفهوم الاعتماد المتبادل بين المصدر «الصين» والمستورد «أوروبا» والطريق «مصر» وكذلك بين أنواع الصناعة والخدمات. كما يستدعي الحديث عن صناعة السفن، والعلاقة بين قوانين الفيزياء والميكانيكا، وعن الشحن البحري وتأثير الطقس. ولا بدَّ أيضاً من المرور على تاريخ قناة السويس، التي عبرتها ملايين السفن منذ افتتاحها في 1869، ومنها إلى تاريخ مصر وتحولاتها، وحصة القناة في الاقتصاد المصري... إلخ.

الغرض من هذا العرض، هو تقديم مثال على نوع التعليم ذي الحقول المتداخلة، الذي أعتقد أنَّه يمثل مادة خصبة للتفكير وإثارة الأذهان. ومن هنا فهو يوفر دائرة واسعة نسبياً، من القضايا والموضوعات التي تساعد الجيل الجديد على استشراف مستقبلهم، وتكوين اهتمامات علمية تنمو معهم، وتتعمق مع تقدمهم في العمر. إنَّ تكوين اهتمامات علمية في وقت مبكر سوف يجعل الميل إلى أحد العلوم نوعاً من الهواية، وإذا اجتمعت الهواية مع الدراسة العلمية في المستقبل، فسوف تتعاضدان في دعم القابلية للإبداع عند الشاب. وقد رأينا أنَّ الشباب الذين اجتذبهم الكومبيوتر في مقتبل العمر «حتى على مستوى الألعاب» تحولوا لاحقاً إلى مطورين لامعين وخبراء متقدمين في حقل المعلوماتية. ويحتمل أنَّ معظمَنا قد سمع عن شخص أو أكثر من هذا النوع.

التجربة نفسها قابلة للتكرار في علوم أخرى. وقد حاولت في هذه المقالة اصطياد مثالٍ عن «نقطة بداية» ممكنة. وأعلم أنَّنا نمرُّ بين حين وآخر بالعديد من نقاط البداية المماثلة، التي يمكن استثمارها في توجيه الجيل الجديد نحو مستقبل مليء بالفرص والتحديات التي تمدُّ حبلاً قوياً بين الأذهان والواقع، بين الهواية والاحتراف.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.