آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

أشرقت بعد ظلام مطبق

ورد عن رسول الله ﷺ: من كثرت همومه فعليه بالاستغفار..» «المحاسن ج 1 ص 42».

يربط رسول الله ﷺ علاقة مهمة بين تدهور الحالة النفسية وتكاثر الآلام والأحزان حتى تطوق عنق صاحبها وتخنقه، وبين المنجى والخلاص من ذلك وباب الاستشفاء والاستدواء لهذا المرض النفسي والمتمثل باستغفار الله تعالى، فإنه بالتأكيد سيشعر بأن مسببات الألم بدأت في الانزياح وتستنشق رئتاه عبق الطمأنينة والرجوع إلى الله تعالى، فالهموم أهم عوامل إحداثها هو التعلق بحطام الدنيا الزائل، فلا تروى النفس أبدا من استحصال نعيمها وأسباب القوة فيها، وكأن طلابها قد تاهوا في صحراء الدنيا حتى إذا تراءى أمام أعينهم الماء من بعيد هرولوا فازدادوا تعبا حتى إذا ما بدأت قواهم بالانهيار يجدونه سرابا، فإذا هم يبدأون مرحلة جديدة من البحث فيزدادون إيغالا في التيه والضياع حتى تتقطع أنفاسهم ويرحلوا بلا شيء!!

والاستغفار من الخطأ تحجيم معناه واختزاله في صورة طلب الإقالة والتجاوز عن الذنب المرتكب، بل هو مفهوم شامل لحالة اليقظة الروحية وطلب الوصال الحقيقي مع الله تعالى بعيدا عن الخواء المعنوي من المضامين العالية أو انقطاعه بسبب الانشغال بأحوال ولذات الدنيا، فتلك الفجوة التي اصطنعها العبد بسبب لهوه عن ذكر الله تعالى أحدثت حالة من الجفاء والبعد عن ساحة القرب من الله تعالى والأنس بذكره، فتجديد الطاقة الروحية وإعادة حبل الوصال مع المحبوب هو الاستغفار الحقيقي عن كل تقصير وذنب والتفات الوجه والفكر نحو الدنيا.

والاستغفار المذكور في الرواية الشريفة والذي يكون من آثاره النفسية إزالة الهموم والأحزان واستبدالها براحة البال وهدوء الجنان لا يكون بمجرد مرور اليقظة الآنية التي لا يستتبعها عزم وإرادة قوية ومستمرة بالهروب من حالة الجفاف الروحي، وليس هو بترداد كلمات التوبة والاستغفار مع غياب للعقل والقلب عن التفاعل مع تلك الاستدارة، وإنما حقيقة الاستغفار ندم على ما صدر منه من تقصير وزلات أورثته الحسرة والألم على ما ضيع من عمره ونقص حظوظه، فيصاب بالأسى والبكاء على النفس وهو يتخيل حاله السيء بسبب الانقياد خلف الشهوات والتخلي عن الفكر الواعي المدرك لعواقب الأمور، ويتحرك بعزم قوي نحو التغيير الإيجابي والحرص على محاسبة نفسه ومراقبة أفعاله بنحو مستمر، فالويل والثبور لمن استصغر ذنبه دون أن يدرك فداحة ما ارتكب بمحضر المولى ورقابة ملائكته الكرام وهي تحصي عليه الأنفاس؛ ليواجه يوم القيامة جزاء كل ما ارتكبه من آثام وعيوب.

والذنوب والمعاصي التي يطلب العبد التجاوز عنها يشمل كل مخالفة للأوامر الإلهية فيما يتعلق بعباداته ومعاملاته المالية والتعاملية مع الناس، فالبعض - وللأسف - لا يحرص - كل الحرص - على تهذيب نفسه من شوائب الانفعال وفلتات اللسان والتعامل الخشن مع أفراد أسرته أو مجتمعه وكأنه يعتبر ذلك بعيدا عن حقيقة التدين والالتزام!!

وأما تلك الهموم المتراكمة على النفس حتى تصيبها بالخناق والتألم، فهي نتاج حالة القلق والتوتر من تبعات وآثار الممارسات الخاطئة، والتي يدرك عقله الباطني أنه يسير في طريق مجهول ونفق مظلم بعد أن أعرض عن آيات الله تعالى وأوغل كثيرا في ارتكاب الخطايا، ومن الخطأ أن نتصور أن الذنوب لا تحدث أثرا سلبيا في شخصية الإنسان ولا تسلبه الكثير من التوفيقات والسداد، فإن المعصية ظلمة في العقل فتغيب الوعي والحكمة عنه، وظلمة في القلب فتورثه الهم والحزن والقلق وضعف الثقة بالنفس بسبب تردده المستمر في إصلاح نفسه.

الاستغفار يعيد للعبد تجديد طاقته وأمله فيتحرك ويفكر بطريقة إيجابية ملؤها التفاؤل، فالسعادة الحقيقية الطمأنينة والاستظلال برحمة الله تعالى والشعور بالقرب منه، فثقل المعاصي وكدرها للنفس يغسله ماء الندم والتوبة؛ لتشرق الطهارة النفسية المتآزرة مع محاسبة النفس، فيعاد - بحق - صياغة شخصيته وقد تخلى عن أخطائه وقام بتصحيحها.