آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

معادلة العطاء

عبد الله الناصر

لم يتجاوز الموقف خمس الدقائق، بدأ بوصول تلك السيارة المثقلة بالصناديق على عتبة بابها، رن الجرس، جاء صوت خجول من الداخل يسأل عن الطارق. وعندما تأكدت أنها جارتها فتحت لها الباب، وبعد التحية والسلام أشارت الجارة لصندوق بني وضع على العتبة وقالت هذا رزق لكم من أصحاب الخير بمناسبة قدوم شهر رمضان، ابتسمت صاحبة المنزل ابتسامة خجل، وعيناها مطرقتان في الارض حرجاً ثم رفعت رأسها بهدوء وقالت «رحم الله والديهم وبارك الرحمن في رزقهم» وودعتها الجارة مسرعة حتى تكمل إيصال باقي الصناديق لمستحقيها قبل نهاية اليوم.

حملت الصندوق لداخل منزلها، ركنته على الطاولة، وراحت تتأمل ما كُتب عليه «أسعد محتاجا بسلة رمضانية متنوعة» شعرت برغبة بالبكاء، التصقت كلمة ”محتاج“ بذاكرتها كأنها وشم الفقر كتب على قدرها بعد ترملها.

في خمس دقائق «كسبنا دمعة بدل الابتسامة»

فتحنا الجرح بدل أن نداويه.

أحيانا نرسم العطاء بطرق تجلب الألم إلى أصحابها بدل السعادة دون أن ندرك ذلك، والسبب أننا لا نضع أنفسنا في أماكنهم، نرى قيمة العمل من الناحية العملية أكثر من الناحية الروحية.

كيف نوجه مبدأ الخير إلى طريق الإحسان في العطاء مع الناس؟ لنعود إلى نفس القصة....

وقفت السيارة عند المنزل ونزلت الجارة بعد أن تأكدت من خلو الشارع من كثرة المارة لتمنع نظرات الشفقة من الناس لأصحاب المنزل، دقت الجارة الجرس، فتحت الأرملة الباب، تبادلت معها الجارة التحية والسلام دخلت معاها لداخل المنزل حتى لا يلفت الوقوف على الباب فضول المارة، قالت الجارة وهي تبتسم ابتسامة الفخر «لقد كنت خير جارة لي منذ سنوات، لم أر منك إلا جميلا، واليوم أحمل معي أمانة من أشخاص يبحثون عن من يحملون جمالا بالقلب مثلك لإهدائهم شيئا بسيطا تقديرا لهم فهل تسمحين لي باحضارها. ردت الجارة وأنا محظوظة بجارة مثلك أيضا بالتأكيد تستطيعين، توجهت الجارة للسيارة أخرجت صندوقا كبيرا مغلفا بورق الهدايا وبجانبه وردة حمراء وتوجهت مسرعة داخل البيت ووضعت الصندوق فوق الطاولة وقالت للأرملة هذه أمانتك وما على الرسول إلا البلاغ، أريد البقاء معك أكثر ولكن سوف آتي مرة أخرى في وقت أفضل فالجلوس معك لا يمل منه، قالت الأرملة وأنا بانتظار زيارتك بأي وقت البيت هو بيتك.

استغرقت المهمة خمسة عشر دقيقة كانت بسمة الأرملة منذ اللحظة الأولى وازدادت عندما فتحت الصندوق ووجدت السلة الرمضانية وفيها أغلب احتياجاتها واختيرت فيها الأطعمة بشكل صحي لهم مع علبة بها مبلغ من المال.

أنجزت المهمة لكن بالعطاء وبالإحسان الذي يهتم بكل التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة واختيار الشخص والتوقيت والعبارات المناسبة.

هنا «كسبنا بسمة صادقة وأوصلنا تقديرا حقيقيا وتكريما بدل أن نستثير مشاعر الضعف والحاجة»

في عبق الماضي كان العطاء مختلفا، أصيلا رغم بساطته بين الناس، بوسائل عادية إنسانية لا تفضح ولا تؤذي مشاعر المحتاج، لذلك سمي الماضي «بزمن الطيبين» الطيبة التي كانت تستشعر الحرج فتبتعد عنه، فتخفى العطايا لإكرام أهلها، واليوم العطاء رغم كثرة المبالغ التي تعطى فيه إلا أنه بات يفتقر إلى الإحسان في تطبيقه، هناك من اتخذ منه نفاقا اجتماعيا وتفاخرا، وغيرهم يرونهم واجبا دينيا يمارسونه وأخرون جعلوا منه تجارة وربحا.

نحن مقدمين على شهر نزل فيه القرآن الكريم ونزلت معه الرحمة والبركات، العطاء مبدأ جميل جدا يزيل من أرواحنا البقع السوداء التي شكلتها الأنانية، ويخلق في داخل ذاتنا راحة وسعادة، لكن لنحترس جيداً، ففي معادلة العطاء يجب أن تكون كف المعطى لهم أثقل من كف المعطي، يجب أن نركز على سعادة الآخرين وليس على سعداتنا، عندما نعي معنى هذا الأمر سنكون فعلا مجتمعا إنسانيا.

أن نكرم المتعففين هدف عميق لكننا ننفذه بطرق خاطئة، نضع أفكارا دون وعي، فلا نبصر فيها حساسية واختلاف كل بيت، لذلك نفشل بالوصول إلى إسعادهم السعادة التي تسقط الإحراج عنهم.

هي تفاصيل بسيطة قد تكون تغيير كلمة أو أسلوب أو طريقة هذي التغييرات تخلق فارقا كبيرا، وتركها خطير لأن تأثيرها على مشاعر الناس ثقيل، فوصل بالبعض رفض العطاء رغم صعوبة معيشتهم لتجنب شعور العطية.

الإحساس بالحاجة مؤلم للإنسان ولكن الأكثر ألما عندما نجعل عطاءنا هو مصدر هذا الشعور دون إدراك منا، فهذا الألم لا ينسى، لذلك حرص الإمام علي كرم الله وجهه على العطاء بأساليب خفية يغطي فيها الحاجات دون أذية نفسية، وكان حريصا على هذا العطاء بنفسه يخرج بغطاء الليل يحمل الطعام للمحتاجين وهو متخف يحرص على رؤيتهم مرتاحين «لو كان الفقر رجلا لقتلته» هي عبارته الشهيرة في نهج وأدب العطاء في أهل البيت.

في واحدة من المبادرات التطوعية قامت مجموعة من المتطوعين بتوصيل معونات غذائية لمجموعة من العوائل المحتاجة بسلال مزينة بالورد وبطاقة تهنئة معطرة تبارك بالشهر الفضيل لمنازل من قرية مختلفة عن قريتهم حتى يقللوا حرج العوائل من معرفة هويتهم. جميل العطاء عندما يلبس ثوب الإنسانية والحنان.

وفي تغيير جميل اتفق مجموعة من أصحاب الخير بالتخلي عن فكرة توزيع كوبونات شرائية من محلات تجارية بعد إدراكهم بوجود من تعز نفسه استخدامها أمام الناس خاصة أنها صممت للأسر المحتاجة، وأبدلوه بظرف وضع به مبلغ من المال يختلف بحسب عدد الأبناء وحاجة الأسرة وكتب عليه «مبارك عليكم الشهر يا أسرتي الثانية»

أعتقد أن المجتمع اليوم يحتاج إلى تغيير ثقافة العطاء، ليتقدمها الإحسان، كما نملك امتحانات المواهب والقدرات للطلاب لإبراز المتميزين منهم، نحتاج إلى امتحانات خاصة يقدمها من يريد المشاركة في العمل التطوعي تبرز لنا الشخصيات التي تملك إبداعا في الفكر الراقي بالتعامل الانساني.

في العطاء يجب أن نترك قلوبنا تقودنا لأنها ستتخذ الطرق الصادقة دائما، لنبتعد عن دائرة العطاء بقيمته المادية فهناك عطاء جميل بمكالمة هاتفية، بزيارة منزلية، بمسج راق، وووالكثير من الأبواب التي تحتاج فقط إحساسا حقيقيا بحاجة الآخرين عندها سنتمكن من إدراك المعنى الصحيح لمعنى السعادة.

ليكن عطاؤنا محسن يرفع الإنسان قدرا وقيمة، يكرم لا يذل. كنبتة بعبق الياسمين تكسب الآخرين برائحتها راحة القلب وتجلب الطمأنينة بالنظر لها، بيضاء تليق ببياض نوايانا. كم سيكون مجتمعنا فواح عندها بالأخوة والإنسانية والسعادة.

لكم أن تتخيلوا ذلك.. عالم يفوح بالحب..