آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

ساعات الجوشن مُغْتَسَل بارِد

ليلى الزاهر *

وصلت أيامٌ هي الأجمل، متباينة عن بقية أيام السنة؛ لياليها بيضاء مُشرقة، أما نورُ نهارها فمُضاعف، ننتقل مع هذه الأيام إلى مشاهد ملكوتية لم نرها، ولم نشعر بلذيذ مناجاة الله تعالى إلا في أسحارها حينما تتصاعد أنفاس التوبة، وتحلو ساعات الجوشن في تحليقات الروح لبارئها، نسمع صوت أبي حمزة الثمالي يخرق الأزمنة ويُضيء طيّات السّحَر.

‏في خطوة زمنيّة تأخذك رجلاك نحو مُغْتَسَل بارِد وَ شَراب، يُفتح لك باب يُقال أنّه الرّيان. زادٌ للروح، يسقي قلبك فينتعش خُضرة ونماء، يصل إليه البعض، بينما لم يُوفق البعض في الوصول إليه لأنّه دُفن تحت الثرى أثناء سيره.

أنا وأنت ومعنا سواد النّاس الذين قدموا التهنئة بهذا الشهر الفضيل، بعضهم قدّم التهنئة بقلب يعتصر ألمًا، وبعضهم أحجم عن تقديم التهنئة لأنه ملقى على السرير الأبيض في أحد المشافي، هنيئا لمن شَهِدَ الشهر الفضيل فأصبح عاشقا لأجمل محطة حياتية، وقف فيها لم ينهكه المرض ولم تضنيه مرارة الفقد.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَفَلْيَصُمْهُ)

«سورة البقرة، آية 185»

شهر رمضان فرصة عظيمة تسبر فيه أغوار نفسك وتعالج فيه صِلاتك بالناس وعلاقاتك المختلفة بهم من قريب أو من بعيد، تسوق ملاحظاتك بتوازن مهيب بين مقدرتك على العطاء والصفح عمّن أساء إليك فتغفر وتُسامح، أوتعتذر وتندم.

ولمن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ الفضيل وقد حضر صامتًا يتألم وهو يرى مراسيم دفن أحد أحبته، يعلم أنّه لا شك في أنّ «رمضان ما» سيأتي ومكانه خالٍ لاوجود له، قد انتقل لسكن آخر بين الثرى وقد عانق الثّريّة ولن تُجديه توسلاته المُذيّلة برَبِّ ارْجِعُونِ للاستزادة أو التوبة، فهذا الحدث من النواميس الكونية المُتكررة، إنّه نقيض الحياة التي أنت بصددها في هذا الشهر الفضيل.

ولمن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ، حظي بفرصة عظيمة، فعند وصولك عتبات هذا الشهر المبارك تكون قد نجوت من امتحانات الرياح وعواصف الأيام الماطرة طوال السنة، فجأة يحلّ السكون بواديك، وتبدأ البوصلة في تحديد وجهة النجاة حيث بدأت تطلّ نسائم الشهر الفضيل. يبرق هلاله، ويفرّ الجميع نحو أبواب الاستغفار، يطرقون رحمات الله وعفوه ورضوانه، يتلقون بشارات السماء

في أول نداء للشهر الفضيل كما كان العرب يجمعون أول قطرات المطر عندما تقطع سكون الصحراء العربية القاحلة وتحولها إلى ترانيم عذبة يستجمّون بها.

وإذا كان الأمل شكلًا من أشكال التّوقع البَهِيج فشهر رمضان يحتضن جميع الآمال والأماني في قلوبنا راجين من الله تعالى أن يُحقق كلّ ألوان التّمني التي نعدّها معادلة صعبة جدا في حياتنا. تشتعل كلّ رغبة مستحيلة في النفس حينما نرى استقبال السماء والأرض للشهر الفضيل، بل نرى النور الساطع آناء الليل وأطراف النهار، وقد اندحر كلّ شيطان طليق، وكلّ إنسان مُتَمَرِّد.

دُعينا فيه لضيافة عظمى وتشريف بهيّ فلنحسن أدب الضيافة. يقول الرسول الكريم: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَابَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ. وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ».

رزقنا الله خير شهره المبارك، وجعلنا ممن شَهِدَ الشَّهْرَ فأحسن صيامه وقيامه. وكلّ عام وجميع الإنسانية بخير وسلام.