آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

السندباد البحري وأكاذيبه المنخاوزنية

ليلى الزاهر *

أحيانًا نتمنى أن تُكشف لنا أغطية بعض عقول الناس حتى نرى تعليلات منطقية لما يقومون به ، خاصة أولئك الذين نشعر بأنهم فقدوا السيطرة على تصرفاتهم وأصبحوا يتصرفون بغرابة.

صديقي عادل من أولئك الناس الذين يتصرفون بشكل غريب ، فكانت تصرفاته في مجملها تثير دهشتي.

جمعتني الصدفة بعادل ، فقد تعرّفتُ عليه منذ عدّة أسابيع في أحد النوادي الرياضية ، وبحكم قرب منزله من منزلي فقد توثقت علاقتي به كثيرا ، فأصبحنا نذهب سويّا للنادي ، وكنا نتبادل أطراف الحديث في ذهابنا وعودتنا.

ينحدر عادل من أسرة كريمة ذات أصول عريقة في الخلق الكريم ، أبوه ضابط بحريّ كبير ، وأمه تشغل منصبا إداريّا مرموقا في وزارة التعليم ، غير أنني لاحظتُ أنه غريب الأطوار في حديثه فهو ينقل أحداثًا غريبة تُنافي الواقع.

وكنتُ عندما أستمع لحديثه أتمنى أن أقول له:

إنني لا أصدق كلمة واحدة مما تقول لكنني أخجل من إحراجه ، لذلك كنتُ في أغلب الأحوال أخفي علامات الدهشة أثناء حديثه معي ، ولا أجد ما أقوله غير هزّ رأسي إيجابًا.

صحبني عادل في إحدى الرحلات البحرية مع صديقي زيد وقد لاحظ الأخير حديث عادل الغريب ، فأضف إلى أنّه كان يُجاريه في حديثه ، شعرت باندماج غريب يجمعهما.

فعندما قطعنا شوطًا في مياه البحر بدأ عادل يُفرغ مافي جعبته كعادته من أحاديث غريبة قائلا :

أتعلمون يا رفاق أنني غرقتُ في مياه هذا البحر وبلعتني أمواجه فوصلتُ إلى مايقارب من ألف قدم تحت سطح البحر ثم تعلّقتُ بذيل إحدى السمكات التي أعادتني للسطح مرة أخرى.

عندها عقّب صديقي زيد قائلا:

لابد أنك استمتعت بتلك الرحلة المثيرة تحت أعماق البحر.

أما أنا فقد ابتسمتُ من حديثه الأبله فقلتُ له:

قد تكون هذه السمكة صديقة والدك ياصديقي ، فربما ساعدها يوما ، ومن باب رد المعروف ساعدتك وأنقذت حياتك.

نظر عادل لي بامتعاض وقد لاحظت حنقه عليّ قائلًا:

من هنا ياصديقي تبدأ متاعبنا في رحلات المغامرة والإثارة فلا أحد يصدقنا بسهولة بل نتعرض للتكذيب من الآخرين.

لكن زيدا نظر إليه مشجعا وقال: تمنيت أن أكون معك في رحلتك تلك.

ردّ عادل بابتسامة شجعته ليُكمل حديثه فقال:

سأطلب من والدي في المرات القادمة أن يأخذنا جميعنا في رحلة صيد مثيرة.

من رحلاته المدهشة فآخر رحلاته كانت ..

وبسرعة قاطعته قبل أن يبدأ بأحادثيه الكاذبة وقلت له:

دعنا الآن من مغامرات والدك ولنواصل أخذ اللقطات الجميلة فقد أوشكت الشمس على الغروب وأمسكتُ بكاميرا التصوير وبدأت ألتقط بعض الصور لنا ونحن على وشك مغادرة البحر.

يبدو أن الشمس لملمت خيوطها الذهبية واختفت بعيدا.

ملكٌ أيها البحر ، ابتلعتَ الشمس سريعا، ولكن ظل الشفق الأحمر بعد رحيلها شاخصا نحونا يداعب لحظاتنا الأخيرة في أحضان البحر، لقد انصرفت الشمس لعالم آخر غير عالمنا.

رأيت علامات الحزن والأسى ترتسم على ملامح عادل مما أثار فضولي فسألته ماذا حلّ بك ياصديقي؟

لم يتمكن من الحديث، رد بصعوبة:

لقد أقبل الليل وأفضل العودة للمنزل ، فأنا أشعر بضيق عند رؤية منظر الغروب !

لا أعتقد بأنني أحرجته أبدا فهو لايعبأ بحديث الآخرين ، وما أكثر مايُشعرني بأنّه معتدّ بنفسه واثق بخطاه . مهما كان الوضع فلن أُشفق عليه؛ فأنا أمقت كثيرًا أحاديثه الكاذبة.

ما أكثر ما نمرّ به من مواقف مُحرجة ، نتمنى أثناءها أن نلبس جميع الأردية التي تغطينا عن الأنظار ، لكن صديقي عادل لايشعر بذلك ؛ فمهما أحرجته يستمر في كذبه. أما الناظرون إليه باهتمام فلايعجبهم من حديثه سوى الفكاهة وبعضهم يرميه بنظرات الشفقة .

ودّعته وتمنيت له ليلة سعيدة.

انتهى بنا المقام أنا وزيد في منزلنا وجمعتنا أحاديث غريبة جعلتني أغير وجهة نظري في عادل.

بدأ زيد حديثه قائلًا:

منذ متى وأنت تعرف عادل؟

أجبته مبتسما: ليس بالوقت الطويل منذ بضعة أسابيع فقط.

ولكنني أُعجبت بسيطرتك على أعصابك أمام حديثه الكاذب.

رد عليّ:

ولكنه ليس كاذبا يا أحمد.

سألته والدهشة تلازمني:

وهل صدقت مايرويه السندباد البحري وأحاديثه الكاذبة تلك؟

لا أظنك تفعلها يازيد.

قال زيد: أنا لم أصدق أحاديثه ولكنه ليس كاذبا وإنما أظن أنه مريض بالكذب.

قلت مندهشًا: مرض الكذب !!!

زيد: لقد اطلعتُ على الكثير من الكتب التي تتحدث عن موضوع الكذب ، فقد كان موضوع بحث كلفنا به أستاذ المهارات الحياتية ، وقد قرأت كثيرا عن متلازمة منخاوزن التي تحمل حقائقا غريبة عن مرض الكذب.

أجبته بدهشة: وماحقيقة هذه المتلازمة؟

قال زيد: هي متلازمة تجعل المصاب بها يعمد لترديد روايات مثيرة ينسجها خياله ولا أساس لها من الصحة ، وهي تماثل حالة عادل تماما.

لقد عاش منخاوزن في هانوفر والتحق بالجيش ثم حصل على رتبة نقيب في سلاح الفرسان واشترك في حربين منفصلتين مع الأتراك بين عامي 1737- 1739.

عندما تقاعد و انضمّ إلى مجموعة من أصدقائه القدامى ، كان يحكي لهم مغامراته في الحرب ، ومعجزاته في الصيد، وتطويع الوحوش ، والتغلب على قانون الجاذبية وقوانين الطبيعية.

قاطعته مندهشًا:

وهل كان الناس يصدقون أقاويله الكاذبة؟

أجابني زيد:

كلا ياصديقي لقد أُصِيب بصدمة حينما عرف أن الناس أطلقوا عليه لقب البارون الكذاب!

أغمضتُ عيني وأنا أتذكر عادل.

كم هو مسكين! هل يُعقل أنه مصاب بمرض الكذب؟

وعادت بي ذاكرتي نحو جميع أحاديثه وروايته الغريبة التي بالفعل لاتصدر عن شخص سليم نفسيا.

والفترة زمنية التي عشتها معه أدركت أنه إنسان مسالم عطوف على الآخرين غير أنه مبالغ في حديثه.

ترقبني نظراته الحزينة حينما كنت أستهزئ بما يقول ، فقط الآن شعرتُ بالحزن عندما نبهني زيد.

بدأت معاملتي له تتغير ، واقتربت منه كثيرا عرفت بعدها من والده أنه يخضع لعلاج يساعده في تخطي اضطربات نفسية بسبب حادث تعرض له وهو في بداية المرحلة المتوسطة.

إنه يعاني أحيانا أوهام الازدواجية في التفكير.

لم يخطر ببالي أن يكون هناك من يكذب متعمدا الكذب ؛ وإنما خنوع النفس وضياعها في عالم ليس له قرار تجعله بفتح نوافذ الكذب فيؤذي نفسه بأخبار مبتورة وأحاديث يصنعها العقل الباطن للحفاظ على الحواس المشوشة والاستسلام للأراجيز البلهاء.

نحن اليوم على مشارف التخرج من المرحلة الثانوية ومازال صديقي عادل مستمرا في جلسات العلاج النفسية ، ولكن على مايبدو أنه تخطّى مرحلة علاجية لابأس به ، فقد توقف عن تلك الأكاذيب التي يُلفت من خلالها أنظار الناس له.

إنه يرتقي اليوم منبر كلمة المتفوقين ليشق بها العنان نحو مرحلة جديدة قادمة مفعمة بالإنجازات بإذن الله.

في نهاية المطاف أردتُ أن أهمس لكم بكلمة في آذانكم يجب أن نتوقف عن القول بأننا «دائما نخسر» لأن بين طيّات الخسارة ربح عظيم يظهر في أوانه.

انتبهوا لأطفالكم من الكذب فليست جميع حالات الكذب مرضية، ولاتوجد كذبة بيضاء أو كذبة سوداء ، ولايجوز بأي حال من الأحوال إلصاق تهمة الكذب بالطفل ؛ لأن تلك التّهمة البشعة قد تعلق في ذهنه ولاتُمحى أبدا فتعيش معه أمدا طويلا ولا يستطيع أن يتخلص منها إلا بشق الأنفس.

إنّ للصدق قيمة أخلاقية كبرى ، ومعنى أن نكون صادقين أي تصبح كلماتنا بيضاء لايشوبها سواد الكذب ولاتنعطف نحو طرقاته المظلمة.