آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 9:00 م

رَصْفُ الزهور

ليلى الزاهر *

وضعتُ الكتاب جانبا وأنا أتصفحُ قسمات وجهها فقد كانت متعة النظر إليها تعدل مشاهدة أجمل الإطلالات الساحرة فوق التلال التي تحتضنها ملامح الطبيعة البكر.

ابنتي الوحيدة سمر تتقلب في الحُسن بهاءً.

ناهيك بمن زوج بين الجلال والجمال بعقل جمع لها سنوات تُضاف لسنوات عمرها لتبدو أكبر بكثير من عمرها الحقيقي مما أنزلها منزلة المرأة الناضجة بينما هي في طور المراهقة.

ابنتي سمر كنت أحسبُها من جمع الملائكة الذين أسجدهم الله لآدم الطيني، ولكنها بشرٌ يتقلب في أرْدِية الطُّهْرِ والنقاء.

تفتقَ عن عشقها الجارف للكتب وللقراءة عقلا كبيرا، تُحلل الأمور وتستنتج الأحداث بحواسها الباطنية والداخلية، تتابع كل جديد، لها القدرة على التصدي لجميع المواقف المعقدة في الحياة، وتمتلك قدرا كافيا من المعرفة يمكّنها من حل مشكلاتها بشكل ديناميكي مُتْقن، وتحمل بين يديها خبرات معرفية متعددة تساندها في الظهور بقوة وسْط أي عاصفة تظهر أمامها.

كان يدور في خلدي كل عناوين الفخْر بها عندما أراها تلتهم الكتب.

كنتُ أحادثُ نفسي فأقول: حمدا لله أنني مع سمر نحمل نفس الأصول البيولوجية الوراثية في حبالقراءة، إنها تحمل الكثير من صفاتي.

تقضي سمر جلّ وقتها في رحلة ماتعة مع الكتّاب تحاورهم وتستلذّ بالحديث معهم. تطالعنا بأسرار غريبة وتنقلنا إلى آلاف السنين، وقد تعتقد من خلال حديثها الجميل أنها شهدت بناء الأهرامات، أوكانت ممن ساهم في تشييد تمثال الحريّة، أو أشرفت على بناء سور الصين العظيم.

ولا تتصور كم أرفع قامتي فخرا عند زيارتها في المدرسة. حينما يستقبلني الجميع استقبالا ملكيّا ويهتفون أنها أم سمر بين مرحب ومندهش.

أوشكت سمر على الانتهاء من المرحلة الثانوية وهي تبحر في عوالم المعرفة وعلى غير عادتها كانت تُزحم أيّ حوار بيني وبينها بأسئلة غريبة جدا يصل بي الأمر أحيانا إلى البحث عن إجابة بين ثنايا عقلي عاجزة عن صياغة كلمات تناسب مستواها الفكري.

ولكنني لا أخشى من أسئلة الخيال العلمي بقدر خوفي من عالم الجريمة بالرغم من أن هوايتي المفضلة هي قراءة القصص البوليسية منذ كنت صغيرة، فقد كانت مكتبتي مأوى العشرات من قصص أجاثا كرستي التي ملأ صيتها أرجاء فضاء عالم الجريمة القصصيّ.

وهاهي تلك القصص تعيد تاريخها بين يدي ابنتي بطبعات جديدة فاخرة.

وظلت ابنتي تسير في نمط استفساراتها الغريب إلى أن وصلت بي إلى مراحل أصابني الذعر من أسئلتها تلك.

لقد استبدلت نوادرها المدرسية التي كانت ترويها لي _ بأسلوبها الفُكاهي _ بأحاديث القتل بشتى فنونه فكانت تسرد لي أحداثا في عالم الجريمة لا أقوى على قراءتها مما يثير دهشتي ويُشعرني بحالة من الخوف.

لقد توغلتْ في عالم الجريمة بكل أشكاله فكانت تتحدث عن طرق القتل المتنوعة، وتُشيد بحكايا الانتحار المفزعة وتتقمص دور المجرم الذي يُتقن فن الجريمة الكاملة حتى تدخل في ثورة عارمة مع نفسها وما أن تهدأ حتى تلقي بنفسها على ذلك المقعد المخملي الذي خصصته للاسترخاء ثمّ تغطّ في نوم عميق بين سُكْر الجرائم وعناق الأحلام.

كم يحلو لي رؤية جمالها كأميرة نائمة وليت قلمي يسعفني بمفردات جميع قواميس العالم ب لوصف عشقي لجمال ابنتي وتصوير حبي لها منذ كانت طفلة صغيرة.

بدأ الأمر يقلقني بشدة، وتوجّستُ خيفة خاصة بعد أنباء حادثة انتحار إحدى زميلاتها في المدرسة.

يومها كان الجو ممطرا والغيوم تتكاثر في أفق السماء حينما عادت سمر من مدرستها وقد بدت عليها علامات الحزن والألم، كانت تريد فقط الابتعاد والخلوة بنفسها.

يومها لم أقوَ على تركها بهذه الحالة فاقتحمت عالمها الممتلئ بالمبعثرات المعرفية كتاب هنا ومجلة علمية هناك، تزامن دخولي عليها بهزيم هائل من العواصف الرعدية مما أفزعها لتلوذ بالفرار نحو أحضاني وهي تبكي بحرقة شديدة قائلة:

لقد ماتت فاطمة يا أمي، انتحرت، رحلت إلى عالم آخر لأنها كانت تعاني ذلك الشّجار الذي لاينتهي بين والديها، بدت حياتها بائسة لاطعم لها.

أخذتها بين أحضاني أنشد سكون نفسها الملتاعة ولأخفف نوبة الذعر الشديدة التي انتابتها أُحاول بكل وسيلة ممكنة أن أدخل الاطمئنان على قلبها الصغير.

ومع مرور الأيام بدأت خيوط قضية انتحار زميلتها تنكشف خباياها شيئا فشيئًا كنت أخشى تورّط سمر في مثل هذه الجريمة فقد كان الذعر الشديد ملازما وكم من المرات كنت أُدير دفة حديثي معها لتبدو أقلّ ذعرا ويسكنها الهدوء مرة أخرى.

كما ذكرت لكم كنت خائفة جدا أن يكون لسمر يدا في هذه القضية لأنها صارحتني بأن فاطمة كانت تسألها كثيرا عن طرق الانتحار السلميّة بحكم تجربتها القرائية في عالم الجريمة، كما أنها تكرر دائما سؤالها: كيف نستطيع إنهاء حياتنا دون مشاكل لغيرنا؟

وفي كل مرة كانت تحادثني فيها بألم عن زميلتها كانت تدفن رأسها بين أحضاني ثم تقول: أمي ربما كنت السبب في انتحارها، لأننا كنا نتحدث مطوّلا عن قصص الانتحار والقتل حتى أصبحنا نبحثكثيرا عن قصص المنتحرين وقضايا الانتحار المختلفة.

وقتها لم يكن بوسعي سوى احتواء ابنتي والأخذ بيدها نحو مرافئ الأمان.

كانت بالنسبة لي نور الشمس الذي يغمرني بالدفء - في شتاء بارد - من رأسي حتى أخمص قدميّ.

وإذا كان إعراب الكلمات يُجيد وضعها في أمكنتها الملائمة فإنّ ترتيب البشر في إيقونة قلبية خاصة يضع سمر في قلبي محاطة بهالات لاتتسع لأحد غيرها، أعشق ابنتي كثيرا وأخشى عليها من كل شيء لن استسلم وسأظل أقاوم سقطات الوقوع حتى لاتصبح حطاما. فعندما يسقط الإنسان من جبل أحلامه لن يتلقاه أثناء سقوطه سوى الأيدي التي أمعنت في الحفاظ عليه.

وفي صراع سمر مع عالم الجريمة وأحداثها تطورت حالتها لتدخل في حالة مرضية من القلق الدائم والخوف دون مُبرر، بات لديها مفرداتها الخاصة التي توقظ الفزع في قلبها.

لقد لاحظتُ عليها بعض من التصرفات الغريبة كالانزواء التّام عن الأسرة والخوف الشديد من الناس. وقد وصل بها الأمر إلى الريبة في الطعام الذي أُعده بنفسي، وما برحت تُلقي التّهم عليّ، بدأت تساورها الشكوك في كل شيء.

يسيطر على إيماءتها الجسدية عقل يتخيل الجريمة، يستنتج، يزاوج، يوحي بأحداث يصعب تصديقها وخاصة في أسرة متّزنة نفسيا وسلوكيا كأسرتنا.

كان يوما مؤلما استيقظت سمر من نومها، طلبت مني إعداد فنجان قهوة لها فرحتُ كثيرا وانتظرتها إلى أن تفرغ من أداء مهامها اليومية وقمت بإعداد القهوة لي ولها، لقد وضعتُ كمية السكر مضاعفة في كوبها تفوق ما وضعته في كوبي وأحضرت صينية القهوة ووضعت كوبها أمامها وكوبي أمامي ثم قمت لإحضار بقية الإفطار، وعندما شرعت بشرب قهوتي لاحظت أن مذاق السكر فيها طاغيا عرفت أنها بدلت الأكواب وهذا ماكنت خائفة منه، شربت القهوة كلها حتى أوحي لها بأنني لم أضع سمّا لقتلها كما كانت تتصور.

باستطاعتك أن تضع التساؤلات المُخيفة لمصير سمر.

لقد وضعت نفسها بين قصصها ورواياتها كانت تُحلل الأحداث وتحولها إلى براهين وأدلة تكشف خيوط الجرائم وكنت أخالها تُسابق المؤلف للوصول إلى كشف جميع الألغاز. كنت خلفها أشحذ عزيمتها، وأدعم ثقتها بنفسها في كفاحهار في ساحة القراءة. قمت بإخفاء كتب الجريمة والقصص البوليسية بالتدريج لأنها أوغلت في قراءة عالم الجريمة والقتل، وقد اكتشفت مؤخرا أن لديها شغف بقراءة الروايات المُخيفة التي كانت تغذّي عقلها، ويظهر أثرها واضحا في سلوكها فقد كانت تتنفس بإجهاد وهي تقرأ عن عالم الأموات وقصص «حفلات الزومبي» وتتخيل أن أحدا يريد وضع السمّ في طعامها كما حدث للمثل الياباني «باندو ميستغرو».

لقد أصبحتُ أداعب أوتار الخوف مما آلت إليه سمر، فلجأت لطبيب نفسيّ وشرحت له حالتها واتفقت معه على ترتيب لقاء يجمعه بسمر ولاتتصور كم من مسلسلات الإقناع والعناء التي استنفدت جهدي وطاقتي حتى أقنعتها بالجلسات العلاجية

استطعت بمعاونة الطبيب إقناعها باستبدال تلك الكتب الدامية وقصص جرائم القتل إلى كتب تطوير الذات وقصص الناجحين في الحياة.

ومع الاستعداد الفطري الذي كانت تتكئ عليه سمر ظهرت قراءات مختلفة في سمائها.

وكنتُ الطبيب الخفي الذي يداوي ويشجع لقد تحسّن وضعها شيئا فشيئا، وشاركت في الكثير من المسابقات المدرسية لتحقق المراكز الأولى.

لكن فجأة توقفت الحياة والجميع لزم منزله دون حركة؛ فقد قُرعت أجراس كورونا، كنت خائفة من بقاء سمر في المنزل لكن فاجأني قرارها وأصبحت أبحر في عالم من القلق النفسي عندما أفصحت عن رغبتها:

أمي: ‏يموت الإنسان عدّة مرات وهو يتألم من المرض، أما الطبيب الذي كان بالأمس يعالج مرضاه أصبح زملاؤه اليوم يعالجونه. هم بحاجة لمساندة وعون لذلك قررت أن أكون بجانبهم.

أقلقني هذا القرار وأوقفني في مفترق من الطرق، تشعّب فكري هنا وهناك وقلت لها: ربما يشقُّ الأمر عليك.. قاطعتني قائلة: مستشفى العزل قريب منا وسوف أكون على قدر احترازي كبير فلا تخافي ياأمي

لقد خانني خيالي عندما حاولت أن أصور لنفسي المآسي التي ربما تمرُّ بالقرب مني عندما أُفكر في تطوع سمر في مستشفى العزل.

لقد جاء تطوعها معجزة في الإبداع وحياة جديدة من الأفكار والآمال والأحاسيس لاحصر لأنواعها وألوانها.

عجائب لم يسدّ مجراها الخوف والهلع من المرض بل رافقها التفاني في خدمة الآخرين.

لقد شاركت سمر ماديا ونفسيا بجهدها ووقتها وأفنت الساعات في تعويض المرضى غياب أهلهم كانت تعمل مع الطاقم التمريضي تقيس معدل التنفس وتراقب مؤشرات الضغط والسكر، توزع الهدايا علىالمتشافين وتقيم أعياد الميلاد للأطفال الصغار. كانت من جملة الذين رفعوهم على السواعد فيارب لاتحرمها أسباب العيش والحياة كي تعود كما كانت تضج بالحياة.

افترشت الآمال وهي تخوض الحرب ضد شراسة هذا المرض إلى أن يأتي اليوم الذي سوف نسجل بإذنالله انتصارا ساحقا عليه.

أنا اليوم أريد أن أجرد سمر من آلامها التي لحقتها وهي ترى الموت يعصف بأولئك الذين صرعهمالمرض ولكنني رأيت ابنتي صامدة قوية. تحرّك قلمها في اتجاه آخر يرصد ذكرياتها في محاربة الألم. وكأنها تخطّ بداية كاتبة، قد غرست بجانبها عودا مستقيما واثق القوام،

ومضيت أرى نِتاج غرسي يزهو يوما بعد آخر، تتحفني سمر كل يوم بكلماتها الجميلة المُحفزة وقد بات همي الأكبر أن أصنع السعادة لها.

دخلنا في عامنا الثاني ونحن نُحارب كورونا وكانت سمر تكتب كل شاردة وواردة في عالمها التّطوعي ضد كورونا، حكايات ماطرة بالنور والزهور، تهتف معانقةً الحياة بشتى أحلامها ترفل بالحب والتضحية من أجل الناس.

مضت شهور وأصبح لسمر حكايات تقصها على أرفف المكتبات، ويستمتع بها الآباء والأمهات، فقد قرر عالم الأمس عالم اليوم حيث بدأ كورونا يجرّ أذيال خيبته شيئا فشيئًا بإذن الله.

وجملة القول قبل أن يُنهي قلمي حديثه لابد أن أُنوّه إلى ضرورة مراقبة النمو الفكريّ للأبناء أمرٌ أكثر أهمية من توفير المأكل والمشرب لهم. خاصة في وسط استمالة النشء نحو الصور المتناقضة كتناقض الليل والنهار، وتهافتهم على الانفتاح العالمي مثل تهافت الفراش على الضوء.

أعرف شعور الآباء والأمهات وهم يعانقون أبناءهم إنّهم يريدون أن يحضنوا الحياة بآمالها فيهم، يحرصون أشدّ الحرص على أن يكون أولادهم أفضل بكثير منهم

هناك من يقف بجانبك تريد ظهوره في صور الأيام معك، تُلْبِسه من قِيمك ومبادئك، تلتقط النجوم منأجله. قد تدخره لأيامك القادمة. ربما قد يعتني بحاضرك ومستقبلك، يستطيع سرْد قصّتك بأسانيد قوية هو طفلك الذي سوف يكبر بأحضانك وتروي له فصول رَصْفُ زهور حياتك التي صغتها بقلمك وسوف تكون أجمل من رَصْف اللآلئ.