آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

دروس المشي وأخباره

أثير السادة *

المشي في الطفولة درس مفتوح على اتساع الطرقات التي نادمت خطواتنا البكر، كان بمثابة نشيد الطفولة الذي نأنس له ونردده بلا ملل.. محمولا بوعود الدرس، كنت أمشي في السابعة من العمر من أول الحي إلى آخره، يومها كان الطريق يتسع لأحلام الصغار الذاهبين إلى درسهم الأول، نمشي وتمشي معنا كل الصور التي نجمعها على امتداد الطريق، الشمس الساطعة تترك بريق أشعتها على أطراف حقائبنا الثقيلة، فيما ظهورنا التي حملت كل تلك الكتب والتآويل توشك أن تستحيل أرجوحة في خطوات التعب.

سنختار المشي برغباتنا ساعة تنقضي التزمات الدرس، نرسم خارطة الحي بأرجلنا التي تختبر معنى المكان بكثير من الدهشة، كنا على وعد مع صداقات برسم الخطوات التي تأخذنا إلى فسحة اللعب، يغرينا الظل فنلعب الحجلة والجلينة، نتطفل على عالم الذين يكبروننا في خطواتهم، فنصطف كالملهوفين بحثا عن فرصة للركض وراء كرة لا تعرف التوقف.

كان المشي معرفة أيضا، أتذكر الخطيئة الأجمل وأنا أمشي لدكان الحي، أبحث عن سكاكر وعصائر ألفناها في أول الصباح، فإذا بي أدفع ريالا لشراء واحدة من مجلات قديمة اعتاد إبن صاحب البقالة عرضها للبيع بعد القراءة، كانت تلك مجلة ماجد، ومشي آخر باتجاه المطالعة والمراسلة، وصناديق البريد التي أشفقت كثيرا على طفل لا يحسن وضع الطوابع الصحيحة على المرسلات.

لا شيء يضاهي المشي في مرايا الصبا، حتى يستحيل في مرات مغامرة لاكتشاف حي آخر، يأخذ منك الخوف مأخذه لأن خطواتك قد تتوه في متاهات عالم آخر، هكذا بدت المسافة في عيوننا بين حينا والأحياء المجاورة، قبل أن تفتح المراهقة باب التآويل لدخول عوالم يصقلها المشي لتصبح منصات لتدوين سيرة جديدة.

المشي إلى المساجد كان الدليل على اشتهاء الانغماس في الموجة الجديدة، موجة التدين التي اعادت صياغة نصوص الناس، كما أعادت تعريف هوامش الحياة، موجة التدين التي انتخبت لنا قوائم أحلامنا، ودفعنا دفعة واحدة في تنور الحماسة الدينية، هناك كان العطش الدائم للمشي إلى حدود المناسبات الدينية، ليالي الدعاء، وأماسي الخطب الحزينة، وحلقات اللطم، وأخواتها من العناوين التي رافقتنا في دروب البحث عن صورنا في وحشة الأيام.

ما بين مشي ومشي هناك عبرنا جسورا ومحطات مكتظة بالقلق، لكنها كانت بمثابة الإشارات المنبهة في منعطفات الحياة، أتذكر صور المشي إياها وأتأمل في ماض مازال يرفد حاضرنا بالأسئلة والأجوبة معا، نهرب منه ويبقى كمن يمشي معنا كالظل، ماض مشحون بارتباكاتنا غير أنه ممتزج بسحنتنا وأخطائنا، ما يجعلنا نتعاطف معه وننحاز إليه أحيانا.

لاتزال خطواتنا الصغيرة في الأمس تضغط على الذاكرة، وتعيد كتابة أخبارها، تذكرنا بأن هذا المشي هو كالوشم، يحفر في سيرة الواحد منا، ويدفعه للتلفت إليه كلما ذهبنا بعيدا في مرايا الوقت.