آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

خرجت ولم تَعُدْ!

فؤاد الجشي

اقتربت منها وهي منزوية في ذلك الركن من بيت مهجور معروض للبيع. تبدو صغيرة جداً، عيناها خضراوان، تقدّمت إليها بكلّ ود، وسألتها: ماذا تفعلين؟

لم تجب، انكمشت في مكانها ونظرت لي بعيون باردة خائفة، فربما كانت شكواها من آثار فصل الشتاء. حاولتِ الفرار لكنّها لم تستطع أن تبعد أكثر من خطوات. أجريت معها حواراً قد يجلب لها شيئاً من الاطمئنان في تلك الدقائق. كانت صديقتي، همست بأذنيها قليلاً وعيناها غائرتان، دون أن تنبس ببنت شفة،

عرفت بعدها أنّها تريد مرافقتي، فالشتاء كان باردًا جداً. بدأت أمسّد ظهرها ورأسها برتابة، حتى انبطحت منبسطة على بطنها بأمان الخائفين، وفجأةً قفزت باتجاه الباب، تنادي أن نذهب سوياً. تقدمت خطوات، أعلنت ندائي لها، جلست في السيارة عندما كان الباب موارباً، نظرت إليها أثناء القيادة أحدّثها عن أحوالها وهي تبتسم، عندما ارتفعت قليلاً نظرت إلى الشارع من خلال الزجاج، كأنها تقول: سوف أخبرك بكلّ شيء أثناء الوصول.

عند الوصول أخبرت الجميع بأنّ لدينا ضيفاً جديداً. إنّها جميلة!

أين وجدتها؟

أخبرتهم بما جرى، لكنّ القائد لم يكن سعيداً دخولها المنزل. وضعت لها الأكل والماء، وخصّصت لها غرفة صغيرة يحتوي جسدها أثناء الليل. شبعت وارتوت وراحت تخفي برأسها بين بطنها، واستسلمت للنوم. نظرت إليها وقد أغمضت عينيها. بدأت أمسح براحة يدي على رأسها مطمئنة بمسكنها الجديد، استطعت أن أكون إلى جانبها بضع دقائق، فربما تريد محادثتي. كانت تغطّ في نوم عميق، أقفلت الباب حتى الصباح. مع نور الفجر الأول ومع كأس شاي الصباح، طرقت الباب قبل الدخول، ولا من مجيب. فتحت الباب قليلاً، استطاعت أن تفتح عيناً واحدة، بينما الأخرى مغمضة.

أشرت إليها بيدي فربما تراني حين أقفلت عينيها مرة أخرى. توسّط النهار، أخبرت أصدقائي بأنّي وجدتها، الفرح كان عائمًا من الجميع، هل نستطيع رؤيتها؟ قلت لهم إنّي سوف أخبركم لاحقًا موعد زيارتها. ما زالت متعبة، كاد النهار الأخير أن ينتهي، ترددت في أن أطرق الباب، الصوت كان واضحًا: صباح الخير يا جميلتي، أخبريني، هل استمتعتِ بنومك؟

تحدثت بصوت ودِيع بكلمات لا أفهمها، بدأت تتثاوب، ارتفع ظهرها قليلاً وبينما أرجلها الخلفية ممدّدة إلى الوراء نظرت وعيناها غارقتان صغيرتان وصوتها الساكن كأنها تقول: أين ضيافتك؟ أحضرت لها بيضاً وبعضاً من الخبز.

أكلت البيض ولم تستسغ الخبز، ارتفع صوتها قليلاً، استشعرت بأنها تريد الخروج، أشرتُ إليها بأصبعي يميناً وشمالاً، ليس الآن قبل أن تستحمي أولاً! أخفضت رأسها أسفل وأعلى بالموافقة، ذهبنا إلى الحمام سويًّا، فتحت صنبور الماء، توازن الماء في حرارة دافئة وهي تنظر إلى تدفق الماء باندهاش. أمسكتها براحة يدي، وبحنان تشعره وهي تنظر أثناء وضعها في الحوض، تذكرت العندليب الأسمر في غنائه يقول: عيناها، سبحانَ المعبود، فمُها مرسومٌ كالعنقود.

أغمضت عينيها والماء يلامس رأسها، بدأت أسمع صوتها الحنون، تغني بصوت يشبه سيلين داين كأنها تقول: ارفعني فوق؛ حتى أقف فوق الجبل. داعبتني بتلك الكلمات والموسيقا الهادئة. أخذتها على صدري وهي تنظر لي، بينما أخذ الصابون رغوته مع قطعة من قماش يأخذ جسدها ذهابًا وإيابًا، حتى استرخت كاملة على بطنها والماء ما زال يتدفق على جسدها.

بدأت الحكاية في إطعامها والحديث معها يومًا بعد يوم، كبرت حتى أصبحت أحد أفراد العائلة، تستقبلني كلّ يوم عند الدخول، تركض، تسمع صوتها الحنون، مضى الوقت للعلاقة التي أردتها القرب والمحبة، لم تدم العشرة طويلاً حتى تغيّر مزاجها، لم تعد تريد الحديث معي أو مع الآخرين لفترة طويلة، قرّرت بعدها أن تزور المدينة، وقفت على الباب الرئيس، أطلقت مواءها الصغير، نظرت كأنها تنظر إلى موناليزا أو إلى شخص آخر، خرجت ولم تَعد، وما يزال السبب مجهولاً؟

إنّها قطتي الصفراء.