آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

في معنى الحوار النقدي وضرورته

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

يبدو أنَّ فكرة «الحوار النقدي مع النص الديني المقدس» التي اقترحتها الأسبوع الماضي، قد أثارت بعض الحيرة عند شريحة من القراء الأعزاء. فقد كتب أحدهم متسائلاً: إني لا أفهم كثيراً من هذا الجدل حول تجديد الفكر الديني، فما الذي أستفيده لو قرأت مقالاً آخر؟ وكتب آخر أنَّ فكرة المقال غامضة، وتساءل ثالث مستنكراً: وهل في القرآن شيء يستدعي النقد؟

كنت أظنُّ أنّي أوفيت الموضوع حقه من التوضيح، لكن يظهر الآن أنَّ الكاتب - أنا على الأقل - لا يجيد الحكم على عمله، فخير له أنْ يسألَ الناس عن حاله. على أية حال، أردت تخصيص هذا المقال لتوضيح ما أظنُّه ضرورياً، ولعله يسهم في إثارة المزيد من الأسئلة التي تدعونا للتفكير في الأبعاد الغائبة عن أنظارنا.

أول الأسئلة بالطبع هو معنى «الحوار النقدي» وقد أجبت أحد الأعزاء بالآتي: الحوار النقدي هو مساءلة مقولات النص، مثل: هل هي مطابقة للواقع، أو قابلة للإثبات المنطقي، وهل يسندها أي دليل من علوم البشر، وهل تنسجم مع ما نفهمه من الآيات الأخرى أو الحديث، هل تدل عليها تجربة التاريخ، هل يتقبلها عقل البشر العادي، هل تتناسب مع العرف السائر؟ هذه الأسئلة تقود العقل إلى تأمل عميق في النص نسميه مجادلة أو نقداً.

- ما الذي نحصل عليه من وراء هذه الأسئلة؟

النقد هو التمحيص، لكنَّه ليس تمحيص النص ذاته، بل تمحيص فهمنا له. نحن نزعم عادة أن فهمنا للنص مجرد عن كل مؤثر، لا سيما النص الواضح الصريح، لكن هذا وهم؛ فكل فهم جديد مشروط بفهم سابق ومتأثر به. حين ننظر إلى شيء أو نفكر فيه، فإن أول شيء يفعله العقل هو تحديد القالب الذي يفهم الموضوع من خلاله. هذا القالب هو تصورنا المسبق للموضوع، موقفنا منه، مستوى معرفتنا به، هل نتوقعه أم لا، هل نرجوه أم نخشاه.

الأسئلة التي عرضتها أعلاه، تساعدنا على توسيع دائرة الأفهام المحتملة، بدل حصرها في واحد. وإذا كان رأينا في موضوع النص متأثراً بقراءاتنا السابقة أو ثقافتنا المتوارثة، فإن تلك الأسئلة سوف تقلص هذا التأثير وتقربنا إلى الاحتمالات الأخرى لمفهوم النص.

بعبارة أخرى، فإن الحوار النقدي يساعدنا في العبور من الأفهام الموروثة إلى فهم جديد، قد يكون أقرب لعصرنا وهمومه. لكن ما الداعي لكل هذا؟

في رأيي أنَّ الفائدة من ورائه قليلة. وهو بالتأكيد ليس ضرورياً بذاته ولذاته، إنما هو ضروري لغرض آخر، فهو يساعدنا في كسر حجاب الخوف من التأمل العميق والتفكير العابر للخطوط الحمراء. يشكل التراث الديني جانباً عظيماً من ثقافتنا العامة، وهو يؤثر - شئنا أم أبينا - في طريقة فهمنا لأنفسنا وعالمنا، وفي تفكيرنا في مستقبلنا ومستقبل العالم الذي سيضمُّ أبناءنا.

من المهم - بطبيعة الحال - أن يكونَ تفكيرنا في العالم منطقياً عقلانياً، وأن يكون تفكيرنا في المستقبل منطلقاً من ثقة بالذات وبالبشر الآخرين، ثقة بخيرية الإنسان وقدرته على التمييز بين العدل والظلم، وكوننا شركاء متساوين في مغانم هذا الكون وفي مغارمه.

كان المرحوم محمد إقبال يرى أنَّ تجديد الحياة مقدمة لازمة لتجديد الدين، وأرى أنَّ تجديد الحياة متحققٌ في نهوض العقل كرائد لحياة الإنسان وتفكيره في دينه وفي عالمه.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.