آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

لقاء عند قصر الرمل

عبد الباري الدخيل *

تقع الإسْكَنْدَرِيَّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتمتد شطآنها على مساحة واسعة، ولمنظر الغروب فيها جمالٌ لا يشابهه إلا جمال تلك الطفلة السمراء، التي جلست تبني لها قصرًا من الرمال، وبكل هدوء تأخذ الماء من حفرة تكونت وتسكبه على الرمل وترفع حائطًا، أو تتأكد من استقامة برج، وتقترب موجة لتسلم عليها وتملأ بئرها ثم تعود.

وبقربها جلس رجل أربعيني يرتدي قميصاً بألوان السماء والبحر، يراقبها ولا يرفع عينيه عنها إلا لينظر لساعته، أما أنا فجلستُ على مسافة قريبة أنظر لها.

جذبني المشهد بينهما؛ لما لنظرات الحب التي يرسلها الرجل من طاقة إيجابية، وسعادة مريحة، تكاد تحيط بالمكان.

كنت أراقب المشهد بكل جوارحي.. فالحب يكاد يُنطقُ رملَ الشاطئ، وهمسَ الأمواج، إلى أن سمعت صوتًا ينادي: حسن.. حسن، فقام الرجل واستأذن من الطفلة وذهب.

الاسم ليس بغريب علي.. وتنبهت أن الوجه أيضًا مألوف لدي.. هل هو حسن الذي أعرف؟ أم أن الشوق جعل الاسم قريبًا لقلبي؟!

رجع الشاب يحمل المثلجات بألوانها البيضاء والوردية الشهية، وناولها الطفلة التي رفضتها واعتذرت بسب اتساخ يديها بالرمل، فانتهزتُ الفرصة وقمت أحمل قارورة الماء وطلبت منها أن تمد يدها وتغسلها.

نظرت الطفلة مندهشة وهي ترسل نظراتها بيني وبين الرجل الذي وقف متحيرًا بالمثلجات، ثم أعدت الاقتراح عليها وأنا أقول: هيا قبل أن تذوب المثلجات.

مدت الطفلة يدها وسكبت عليها الماء، ثم تناولت المثلجات، والتفتُ إلى الرجل الواقف وسألته: هل أنت الشاعر حسن يوسف أحمد؟

قال: نعم أنا حسن ولكني لست شاعراً.

قلت: ألستَ صاحب القصيدة التي مطلعها:

سلام عليك سلام أغرْ

سلام المحب حليف السهرْ؟

كأن كلامي وقع عليه بما لم يتوقع فرفع رأسه وحدّق فيَّ قليلاً ثم سألني: من أين لك هذه القصيدة؟ إنها قديمة جدًا.

قلت: أنا حور التي كنتُ أدرس معك في جامعة بغداد.. معقولة تنساني؟

فتح فمه وعيناه ورفع يده ووضعها على رأسه وقال: يا الله.. ما.. ماذا حدث؟ لقد تغيرتِ كثيرًا

قلت وقد علت ابتسامة خجل وجهي: تقصد السمنة والشيب؟

فنكّس رأسه حياءً

وأكملتُ: البيت والأولاد يجعلان الشاب هرمًا.

قال: هذه ابنتي نور.

قلت: لماذا نور؟

قال: وما فيه؟

قلت: إنه اسمي السري الذي كنت تكتبه في قصائدك:

أيها السَعْدُ زارَ قلبيَ نورٌ
قد أضاءَ السماء نجمٌ كبيرُ

قال: نعم.. فحبك لم يفارق مخيلتي ولا لحظة واحدة.. حبك ولد والشوق في يوم واحد.. وبقيا يترددان مع كل نفس.. ويتجددان مع كل نبضة قلب، وتزهر حدائق الياسمين مع كل لقاء.

لم استطع إخفاء رعشة قلبي فبكيت وأنا أتذكر حسن الشاب الأنيق، ذا الملامح الريفية الجادة، كان رغم فقره أنيقًا نظيفًا، ومتحدثًا لبقًا، وشاعرًا، ورياضيًا، لذا كان محط أنظار الفتيات، وكنت أغار عليه حتى من المدرسات، بل حتى من الموظفات في المطعم والمكتبة.

بنينا معًا قصة حبٍ رقيقة هادئة، وملأنا سلالنا عناقيد ياسمين، يلونها الفرح.. نلتقي كل يوم في ساحة الجامعة أو في قاعاتها.. التقت عينانا أولًا فرفعت علم الحب، وامتدت الأيدي للسلام والمعاهدة على الحب طوال العمر.

لكن الحرب شتتت الأحباب، وفرقت الأهل والأصدقاء.

الحرب والحب حروف متشابهة لكنهما وجهان لقبح وجمال الإنسان، فإن أحب حلّ الربيع يطرق النوافذ ويزرع الابتسامة في الجدران، وإن رفع سلاحه للحرب دمر القلوب قبل الحقول، وأجرى الدموع قبل الدماء.

متى تتوقف الحروب؟

متى؟

قلت له: ثلاث سنوات من الانتظار بعد اختفائك في مجاهيل الحرب وقد قيل أنك أسرت أو هربت، وآخرون قالوا أنك متّ في قصف جوّي.. بعدها تزوجت من ابن عمي وقد هربنا أيام الحرب الثانية إلى الأردن ثم استقر بنا الحال في القاهرة، ونحن هنا في إجازة.

نظرتُ إلى عينيه وقد غرقتا في دموعها كجزيرة أصابها الطوفان فاختفت تحت المياه، وكأنه إذ ينظر للبحر يتزود منه الصبر.. قاطعنا صوت نسائي ينادي نور فالتفتْ حسن وقال: إن زوجتي قادمة.

فهمت أنه يرغب في مغادرتي، كانت نفسي تأمل أن أقبّل نور وأضمها لصدري، لكنّني احترمت الموقف وغادرت بسرعة.

رجعت إلى مكان جلوسي وشغلت نفسي عن مراقبتهم بمراقبة البحر.

وبعد ساعة تقريبًا سمعت صوت طفلة كأنه همس البحر، تمد يدها وتناولني كأس عصير وهي تقول: تفضلي خالة.

تناولت الكأس وأمسكت بيدها وأغلقت باب التردد، وضممتها إلى صدري وقبلتها، فوجدتها عذبةً، ولو كانت نهرًا لشربتها ثم ادعيت العطش.. ثم تركتها ترحل قبل أن تجري الدموع على اسمي الذي بقي سرًا، ولتبقى ذكرياتنا قناديل على جدار الليل.