آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

نحو معالجة أسباب التطرف

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

درج معظم الكتاب العرب، في العقود الأخيرة، على المبالغة في تفسير أسباب تغوّل ظاهرة التطرف التي انتشرت كالهشيم في الوطن العربي، ومثلها في المراحل الأولى «تنظيم القاعدة»، ومن ثم تنظيم «داعش». وخرجت تلك القراءات بنتائج غير واقعية، من دون محاولة تفكيك الظواهر ووعي مكونات البيئة التي نمت وترعرعت فيها.

ومؤخراً، تجدد الحديث عن عودة نشاطات «داعش»، في العراق وسوريا، بما يعيد أهمية تحليل هذه الظاهرة، السلبية والمقيتة. وربما يعود سبب العجز عن التوصل إلى قراءة صحيحة لأسباب هذه الظاهرة، إلى الخشية من التوصل إلى نتائج لا ترضي المسؤولين في الدول التي تنشط فيها حركات التطرف، بما يوحي وكأن القراءة الصحيحة تعطي أعذاراً لعمليات التخريب والقتل على الهوية.

فالتوصيف عادة لتلك القوى صحيح إلى حد كبير، وهو أنها أصولية ومتشددة ورجعية وموتورة، وحاقدة وتعيش غربة تاريخية معادية لروح العصر، وأنها تضم في الأغلب مجموعة من المهووسين الذين يعانون أمراضاً عصابية، واضطرابات عقلية، لكن تلك التوصيفات، ربما تجلب الراحة من عناء البحث والتمحيص، لكنها لا تحل المعضلة.

فمقتضيات البحث العلمي تقتضي، عند دراسة أي ظاهرة اجتماعية، وعي الظروف التاريخية التي نشأت فيها، والإحاطة بمختلف زواياها وأنشطتها، وصياغة مجموعة من الفرضيات الدالة، وذات العلاقة ودراستها، باستخدام أدوات التحليل النوعي والكمي، وتحديد مناهج البحث وقياساته، من أجل الخروج بنتائج، تساعد على التعامل معها، واجتراح وسائل عملية للقضاء عليها.

وفي موضوع التعامل مع الإرهاب، فإن المكتبة العربية، والعالمية، تعج بعشرات الآلاف من الكتب، ولكنها في معظمها توصيفية، لا ترقى إلى التحليل العلمي الذي يساعد على استنباط النظريات. وما لدينا، في معظمه، مثقل بمواريث سلطوية، ونخبوية ونظرات استعلائية عنصرية شوفينية، لكن ذلك لا يعني غياب الاستثناءات.

وفي كتابه «لماذا يتمرد الرجال؟»، يورد الكاتب“تيد روبرت غير”أسباباً للتطرف، هي في جملتها تعبير عن غضب عام، تجاه البناء الفوقي السائد، وتجسيد لعمق المسافة القائمة بين البناءين التحتي والعلوي في المجتمع. والقضاء على التطرف من جذوره يتطلب مراجعة مستمرة، للسياسات القائمة، ومحاولة تضييق الفجوة بين البناءين.

هذا وحده الذي يحقق الاستقرار والسلام الاجتماعي، في حين يبحث مفكر آخر، هو شالرز تلي، في كتابه «من التحشيد إلى الثورة»، عن أسباب أخرى لبروز التطرف تجتمع في معظمها حول التنافس على السلطة. إن التطرف يحدث عندما تشعر مجموعة من الناس بأن استحقاقاتها من الثروة والمشاركة في السلطة غير كافية، وتعمل على زيادة حصتها. فالارتفاع في زيادة عدد السكان، وقلة مصادر الثروة، وغياب الحقوق الأولية كالسكن، والتعليم والعلاج، وبروز نخبة متعلمة لا تجد المكان الذي يناسبها في المجتمع، محرضات على التطرف، يمكن أن تأخذ أشكالاً أيديولوجية مختلفة: ليبرالية، أو تقدمية، أو دينية، ولكنها في حقيقتها تعبير عن الشعور بالحرمان. إن زوال التطرف في هذه الحالة، مشروط بزوال الإحساس بالظلم، وتغليب حق المشاركة الاجتماعية في البناء والتنمية، بنسبة مقبولة من العيش الكريم.

أما تيدا سكوكبول، فإنها في كتابها «الدولة والثورات الاجتماعية»، فترى أن عدم قدرة الدول على التنبؤ بحدوث التطرف واستباقه بالقضاء على مسبباته، هو العامل الرئيسي في اندلاعه. وإن جميع الأسباب المشار إليها أعلاه، من وجهة نظرها، هي نتائج وليست مقدمات. إن السبب الرئيسي هو عجز الدول عن قراءة مجتمعاتها بشكل صحيح، واستنباط الحلول لمواجهتها، ليس المشاكل القائمة فقط، وإنما التهيؤ للمستقبل، والحيلولة دون بروز الظواهر السلبية، اعتماداً على القول المأثور: قنطار وقاية خير من ألف قنطار علاج.

ويقيناً، فإن جميع هذه النظريات، ومعها نظرية الصراع الطبقي، على الرغم من أهميتها، فإنها صيغت بناء على تجارب قاصرة، وضمن ظروف وقضايا مختلفة، من حيث الزمان والمكان. ولذلك فإن من الصعوبة، أن نأخذها جميعاً، أو حتى بعضاً منها، كمسلّمات. لكننا في ظل عدم توفر رؤى نظرية بديلة، فإنه لا مناص من استثمارها، كبداية انطلاق لصياغة رؤى نظرية بديلة لأسباب التطرف.

إن ما يمنح هذا الموضوع أهمية قصوى في هذه المرحلة من التاريخ، هو أن العالم يتحرك من حولنا، ونظام دولي جديد في طور التشكل، في ضوء حقائق القوة الجديدة، واستمرار حالة التطرف في عدد من البلدان العربية، سيكون بالتأكيد معوقاً رئيسياً لنا من دون صياغة استراتيجية عربية عملية، تجعل منا ترساً فاعلاً في الحراك الإنساني المتجة باطراد وقوة إلى الأمام.